الألباب المغربية/ عزيز لعويسي
مررنا بمدينة الشماعية ما يزيد عن العقد من الزمن، قضينا بين شارعها الوحيد الذي تفصله مسافات زمنية عن شوارع كيليز بمراكش الحمراء، وزقاقاتها الرتيبة وأحيائها البئيسة، مدة قاربت السنتين، كانت كافية لنفهم معنى البؤس، ونستوعب مفردة التهميش والإقصاء، ونستخلص الموت البطيء، في مدينة، رحل عنها التاريخ، وهجرها التراث، وبقيت وحيدة، ليكون حالها كحال “امرأة المنحوس، ماهي مطلقة ما هي عروس”، فلا هي تحظى بمكانة معتبرة، تليق بتاريخها البهي، الذي زحفت عليه رمـــال الإقصاء والتهميش، ولا هي أخذت نصيبها من تنمية، تتوزع ثمارها هناك، في المدن المحظوظة، كالرباط والدار البيضاء وطنجة وتطوان وفاس وأكادير ومراكش المجـــاورة …
مآسي الشماعية، قد تتجسد حسب البعض، في الكلاب المتسكعة بين حوانيت ودكاكين الخضر والبقالة والجزارة، والتي باتت جزء لا يتجزأ من المنظر العام، أو في جائحة البطالة التي تنخر أجساد الجيل الصاعد من المراهقين والشباب، في صمت، في مجال جغرافي وسوسيواقتصادي صعب، تحول فيه الصبر إلى دواء ناجع، لكل المنتظرين واليائسين والحالمين، وقد تحضر في حالة الجفـــاف الحاد، التي ترخــي بكل ثقلها على المدينـــة الحمرية، بعدما انحبـــس عنها غيث البناء والنمــــاء، تاركا خلفه أتربة حمــراء تتسكع كسكــارى منتصف الليل، بين الحــارات والزقاقات، حاملة تحــت إبطهـا، همـــوم وانتظارات ساكنة، قدر لها أن تتموقــع عنوة، بين فكي “البؤس” و”الانتظار”، وهي المجـــاورة لواحدة من عواصم الفوسفاط المغربي، دون أن تصلها ثماره الوفيرة، ولا نعمه الكثيــرة …
مآسي الشماعية أو “كليز” منطقة احمر كما يحلو للبعض توصيفها، تحضر مفرداتها وتفاصيلها بين الأحياء والزقاقات التي تبدو كالمتاهات، وفي ملامح وقسمات وجوه شبابها، الذين ليس لهم من ملجأ أو حضن في واقع التيه والنمطية، ســوى نشر أرجلهم في مقاهي رتيبة، تشاطرهم نفس الآهات والأوجاع، في مجــــال جغرافي صعب وشاق، تزداد حدته وصعوبته، كلما حل الجفـــاف وأخواته، ضيفا ثقيلا على المدينة، فيحولها إلى ما يشبه المدينة المهجــورة، حيث لا طير يطير ولا وحش يسير، خاصة في الصيف، ماعدا الكلاب المتسكعة، والأتربة الحمراء المتزاحمة مع رياح الشرقي، وأصوات المنبهات المنبعثة من المحطة الطرقية اليتيمة أو “لاكار” كما يسميها “الشماعيون” و”الشماعيات”…
مآسي المدينة الحمرية، مهما اختلفت مفرداتها أو تجلت معانيها، فهي تتقاطع جميعها في “مدرسة الأمراء”، التي كانت ذات يوم، في زمن الاعتراف والتقدير، منارة تربوية وتعليمية، لتكوين الأمراء العلويين ورجالات الدولة، قبل أن تتحول في زمن الإقصاء العمدي، إلى أطلال ومأوى للمتشردين والمتسكعين، في جريمة تاريخية وتراثية متكاملة الأركان، تتحمل وزرها المجالس المنتخبة المتعاقبة على تدبير شؤون المدينة، والسلطات الوصية على الثقافة والتراث على المستويات الإقليمية والجهوية والوطنية، كما يتحمل وزرها المجتمع المدني المحلي وعموم الساكنة، صمتا وتجـاهلا، والمعلمة التاريخية البارزة في تاريخ الدولة العلوية، تعيش اليوم، ما يشبه الموت السريري، وتحتاج أكثر من أي وقت مضى، إلى مسؤولين حقيقيين، يدركون ليس فقط، أهمية المعلمة الآيلة للزوال ومكانتها الاعتبارية التاريخية والتراثية، بل الدور التنموي والإشعاعي، الذي يمكن أن تضطلع به، في حالة إنقاذها من السكتة القلبية الوشيكة، وترميمها وتثمينها…
مدرسة الأمراء بالشماعية هي أكثر من معمار تاريخي يعيش آخر مراحل عمره، هي مكون من مكونات الذاكرة التعليمية الوطنية، التي تحضر تفاصيلها في مدارس السعديين والمرينيين والموحدين والمرابطين وجامع القرويين الشهيـر، ويمكن أن تشكل المعلمة إذا ما تم الالتفات إليها، ترميما وتثمينا، قاطرة للتنمية البشرية والاجتماعية والثقافية والمجالية، في مدينة، لا يمكن البتة، أن ترتقي، إلا بالاستثمار الأمثل لمؤهلاتها الطبيعية والتاريخية والتراثية مثل مدرسة الأمراء والكنسية وبحيرة زيما والفولكلور الشعبي…، وما قيل عن الشماعية، ما هو إلا مرآة عاكسة، لما تعيشه الكثير من المدن والمناطق المغربية، التي تتشارك جميعها، واقع البؤس والإقصاء والنسيان، وعلامة مميزة، معبـــرة عما يعيشه التراث المعماري الوطني من أزمات ومحن…
وإذ، نوجه البوصلة نحو “الشماعية” للمرة الثانية، فهي فرصة، لتوجيه رسائل مفتوحة إلى المهتمين بحقل التاريخ والتراث المحلي والمجتمع المدني الشماعي، وكل السلطات الترابية والمنتخبة، بما في ذلك، صانعي القرار التراثي على المستوى الوطني، من أجل التحرك، في اتجاه إنقاذ “مدرسة الأمراء”، ففي إنقاذها، إنقاذ للذاكرة التعليمية الوطنية، وإسهام حقيقي، في وضع مدينة بئيسة، على سكـة الإقلاع التنموي المأمول، وأي موت وشيك للمعلمة العلوية البارزة، هو جريمة في حق التراث والذاكرة، معاقبة مرتكبيها، ترتقي إلى مستوى الواجب الوطني…