الألباب المغربية/ محمد خلاف
عاش الغزواني كطفل؛ بوهيمي سائب في الحياة وملذاتها؛ يقضي معظم نهاره بجانب الوادي لصيد السمك بشبكته التقليدية؛ وسلته القصبية المرقعة؛ مرتديا جلبابا أصفر فاقع لونه؛ له (قب) كبير جدا؛ يستعمله لجمع بعض الأغراض؛ وقصير من الأسفل يكاد يصل ركبتيه للهروب من مطاردات الكلاب؛ أو الالتصاق بزريبة سدر؛ أو ما قد يأتي به الوقت كما يقول؛ وقبعة حمراء بها إشهار لماركة من السجائر ربحها ذات سوق أسبوعي؛ وعدة تدخين القنب الهندي لا تفارقه من لوحة خشبية؛ وسكين خاص؛ وبقايا جرائد بها بعض من (طابا)؛ يعاقر الماحيا بجنون طيلة النهار؛ يبيع كل ما جاد به النهر مساء قرب مقهى بزيكر حيث الروندة والشاي وغلاوين بأحجام مختلفة… وبعدما قل السمك؛ وأصبحت السلاحف في سباق البقاء تملأ شبكته وتلتصق بصنارته؛ غادر الدوار؛ وعشه الطيني خصوصا أنه كان مقطوع من شجرة؛ فقد والديه مبكرا؛ وأخته الوحيدة متزوجة بدوار قصي؛ قرر الرحيل إلى الدار البيضاء حيث الأضواء والمال وسوق العمل الجيدة؛ وحيث يوجد صديق له تعرف عليه بالسجن ذات يوم حيث كان يقضي عقوبة سببها الخمر والتواطؤ في سرقة عجل شيخ الدوار؛ بينما كان صديقه ابن عائلة ثرية بالدار البيضاء قد سجن بوشاية نتيجة تورطه في استهلاك المخدرات الصلبة؛ جاء باحثا عنها بإحدى دوواير المنطقة المشهورة بكون الكثير من أبناءها يعملون في تجارة (الغبرة) بايطاليا؛ وكان أن تعامل الغزواني مع الشاب البيضاوي بتعطف؛ وحنو؛ ودافع عنه وضمن له الكثير من حقوقه داخل القضبان لبنية الغزواني القوية؛ وكان وعد الشاب أن قام برد الجميل له بعد الإفراج عنهما؛ وهو ما كان بعد تبادل أرقام الهواتف؛ إذ أرسل له العديد من الحوالات المادية؛ كما استقبله بالدار البيضاء بترحاب كبير؛ بعدما عمل على تغيير شكل الغزواني البدوي؛ الذي انبهر بالمدينة الغول وعالمها؛ وبوساطة من عائلة الشاب الوازنة عمل حارسا ليليا؛ بعدما ربى كلبا كي يساعده في مهمته؛ واشترى مصباحا يدويا؛ وهراوة غليظة كي يخيف بها من تسول له نفسه من أبناء الليل التعدي على ممتلكات الناس؛ وبعض الأواني البسيطة لإعداد الشاي ليلا داخل براكته؛ أصبح محبوبا من الكل نظير عفويته؛ وبساطته؛ وإيمانه بالقناعة والستر؛ وكذا تأديته للسخرة لناس الحي في تحد وعزيمة؛ خبر المطايفات وبنات الليل والسكايرية؛ وليل المدينة الذي يصعب تتبع كل خيوطه أو سرد مشاهده كاملة؛ سماه ناس الحارة (نوفل الملالي)؛؛؛ يبدو الغزواني في عمله دوما مستنفرا؛ يشك في كل عابر؛ عيناه تفحصان كل مشتبه فيه بانتباه شديد؛ انقطعت أخباره عن الدوار نهائيا؛ وتزوج من سيدة ميسورة الحال من ساكنة الحي في لقاء جاء صدفة؛ استقرا معا بعدما أمسك قطعيا عن كل المحرمات؛ وترك الحراسة… مرت سنين بالبيضاء كسا الشيب رأس الغزواني؛ وشحب وجهه بفعل السهر؛ واختفى بريق الشباب من عينيه؛ ونحل كثيرا؛ راوده حلم العودة إلى مسقط الرأس؛ صوت أنفاس الدوار يهمس في أذنه دوما؛ بعدما دفنت عفويته في كفوف البيضاء؛ يحلم أن يتأمل القمر؛ ويدون حكايات العشق مع طيفه بدموع الفرح؛ ويرقص على ألحان المطر على ضفاف النهر والأيك الأول على سمفونية الليل وحكاية العاشقين؛ بعدما سرقته المدينة بذور الصفاء والعفوية؛ عاد رفقة زوجته على متن rav4؛ وجد المكان الذي أمضى فيها جانبا من حياته المتأرجحة بين تلاوين يتداخل فيها، الأبيض بالأسود، والفرح بالكآبة، والغنى بالفقر، والحب بالكره، والانطلاق بالانغلاق، والتعاسة بالسعادة؛ قد تغير كثير بناسه وبنيانه؛ استغرب الكل حضوره خصوصا بعدما راجت أخبار عن وفاته؛ وأخرى عن كونه قابع بإحدى الزنازن؛ أو ركب قوارب الموت؛ حتى أنه وجد بيته الطيني القديم؛ تآكل وأصبح خرابا؛ واستغله أحد الجيران من أبناء عمومته كمربط لدوابه؛ مما اضطره للدخول في متاهات المحاكم؛ واستمرار الملك؛ دون أن ينعم بحب مسقط الرأس أمام زوجته.
في ليالي الشؤم المليئة بالضغينة، ثارت حيرته؛ فازداد مرارة إلى درجة الإختناق؛ فقرر العودة من حيث أتى بعدما كلف شخصا ببيع منزله هناك بالدوار؛ لكنه تراجع عن ذلك مع حضور أخته؛ وقرر إصلاح المنزل والإستقرار به وسط الأهل والأحباب وأصدقاء الصبا؛ وساهم في تأسيس فريق كرة قدم بالدوار؛ ونادي نسوي؛ وروض للأطفال؛ وتأسيس العديد من الجمعيات.