الألباب المغربية/ عزيز لعويسي
منذ ما وصف بعملية طوفان الأقصى المأسوف عليها، العشرات من المسيرات والوقفات التي نظمت عبر التراب الوطني تضامنا مع أهل غزة، وتنديدا بالغطرسة الإسرائيلية، وإذا لم نكن مبالغين، فالمغرب تصدر قائمة الدول العربية على الأقل، التي تركت باب الاحتجاج والتضامن مفتوحا، ولم يفرض القيود على الفعل الاحتجاجي والتضامني، بخلاف ما حدث ويحدث في عدد من الدول العربية؛
لكن على ما يبدو، فحرية التضامن والاحتجاج باسم الدفاع عن فلسطين والتضامن مع غزة وأهلها، كانت بالنسبة للبعض، فرصة لتصفيةالحسابات مع الدولة، والضرب في توجهاتها واختياراتها الاستراتيجية، خدمة لأجندات ومشاريع خارجية باتت معلومة، دون أي اعتبار لاستقرار الدولة وأمنها ومصالحها الحيوية، في سياق جيوسياسي إقليمي ودولي، تواجه فيه البلاد عدة تحديات، في طليعتها قضية الوحدة الترابية للمملكة؛
من اعتاد النزول إلى الشوارع حاملا شعار “مع فلسطين ظالمة أو مظلومة” و”غزة رمز العزة”، رافعا صورا وشعارات وأعلاما، غير الأعلام والرموز الوطنية، دون أن تتحرك فيه مشاعر الدفاع عن الوطن ونصرة قضاياه العادلة، في ظل ما تتعــرض البلاد من حملات عدائية ممنهجة، ومن إساءة لرموز الأمة وثوابتها، فهو يرتقي إلى مرتبة العداء ومنزلة الخيانة، لأن الذي لا تسكنه غيرة الوطن، ويضع بيضه كاملا في سلة الخصوم والأعداء، فالوطن منه براء؛
دعوات التظاهر أمام الموانئ المغربية، كما حدث في ميناء الدار البيضاء، عبر ادعاء وجود باخرة تجارية محملة بأسلحة متجهةنحو إسرائيل، والدخول في مناوشات مع قوات الأمن، يعكس بجلاء، أن هدف الجهات التي اعتادت الخروج إلى الشارع والتظاهر تحت يافطة التضامن مع غزة، ليس فلسطين ولا غزة، بل إحداث الفوضى والمساس بأمن واستقرار البلد، واستهداف معلن للمصالح الاقتصادية والاستراتيجية للوطن، بما يخدم بقصد أو بدونه، ما يتطلع إليه خصوم وأعداء الوطن، وفي طليعتهم نظام العالم الآخر؛
المظاهرات التي نظمت تضامنا مع غزة، كان يمكن أن يكون لها معنى، لو حضرت لما تم استهداف مدينة السمارة المجاهدة قبل أشهر من قبل صعاليك تندوف ومن يتحكم في حركاتهم وسكناتهم، وكان يمكن أن يكون لها مغزى، لو تجلت مشاهدها، في سياق ما تتعرض له قضية الوحدة الترابية للمملكة من حملات عداء واستفزاز ممنهجة من جانب أعداء السوء، لكنها تغيب أمام حضرة الوطن، وتحضر بكل حماسها واندفاعها، لما يتعلق الأمر بالاصطفاف مع الآخر، ضد الوطن ومصالحه الحيوية والاستراتيجية؛
التظاهر أمام منشأة استراتيجية وحيوية بالنسبة للاقتصاد الوطني بوزن ميناء الدار البيضاء أو ميناء طنجة المتوسطي الذي بات مفخرة للوطن، هو تصرف بئيس وممارسة جبانة ضد الوطن، وخدمة واضحة للخصوم والأعــداء، وهذه “البسالة” باللغة الدارجة، لم يعد ممكنا أن تستمر بدون قيد أو لجـام، بعدما تحول التظاهر باسم فلسطين، إلى فرصة بالنسبة لبعض المتهورين والمندفعين من الوصوليين والانتهازيينوالمسترزقين، لإحداث الفوضى والمساس بالنظام العام، والتأثير على المصالح الحيوية والاستراتيجية للدولة؛
حب فلسطين والتضامن مع القضايا الإنسانية العادلة عبر العالم، والتنديد بالحروب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسـان عبر العالم، والتطلع إلى عالم آمن ومستقر ومتسامح ومتعاون، هي أمور لا يمكن البتة، الاختلاف بشأنها، من زاوية الإنسانية التي تجمعنا، مهما اختلفنا على مستوى الأديان والمعتقدات والثقافات واللغات وأنماط العيش…، لكن في ذات الآن، لن يسمح أي مواطن مغربي تسري داخله دماء “تامغربيت”، بأن يتم التنكر للوطن أو المساس بأمنه واستقراره ووحدته، أو التشويه على مصالحه الحيوية والاستراتيجية، مهما كان الدافع أو الباعث؛
يؤسف له أن القضية الفلسطينية، أفرغت من قدسيتها ونبلها، وتحولت للأسف، إلى قضية للاسترزاق السياسي والمصالح الضيقة وتصفية الحسابات والابتزاز وخدمة الأجندات الخاصة ما ظهر منها وما بطن، والقضية في حاجة ماسة اليوم، إلى حكماء وعقلاء، يكونون شركاء في صناعة الأمن والسلام والسكينة، استحضارا لتباين موازين القوى، لا إلى من يكتفي بتسخين “التعارج” و”البنادر”، أو من يقدم على المغامرات الاندفاعية غير محسوبة العواقب، التي لا تحمل إلا الخراب والدمار والمآسي كما حدث فيما وصف بطوفان الأقصى؛
ونختم بالإشارة إلى الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 39 للمسيرة الخضراء، لما وجه الملك محمد السادس، البوصلة نحو الوطنية والخيانة، بالقول “ليس هناك درجات في الوطنية، ولا في الخيانة، فإما أن يكون الشخص وطنيا، وإما أن يكون خائنا”، وعليه، فأي تجمعات أو مسيرات تحت يافطة التضامن مع غزة، لا يحضر فيها صوت الوطن، ولا تراعى فيها ثوابت الأمة ومصالحها الحيوية والاستراتيجية، هي ممارسات وضيعة لا تليق ولا تستقيم البتة، بمن يتقاسم معنا هوى الوطن، ولابد من كبح جماحها، حرصا على النظام العام وحفظا للمصالح الاقتصادية والاستراتيجية.
ولا يمكن أن ندع الفرصة تمر، دون الترحم على شهداء غزة، متأسفين على ما خلفه العدوان من خراب ودمار ومن جرائم حرب وضد الإنسانية، وكان يمكن تفادي ما حصل من مآسي إنسانية، لو حل التعقل والتبصر والتقدير، محل الحماسة والاندفاع والانتحار، على أمل أن تجد القضية الفلسطينية حلا نهائيا في إطار “حل الدولتين” ، بما يحقق سلاما عادلا وشاملا لشعوب المنطقة، وأن تتضافر جهود الدول الرشيدة والحكيمة والمتبصرة، من أجل الإسهام المشترك في صناعة السلام، بعيدا عن كل من يضع الحل كاملا، في سلة التهور والعناد والاندفـاع والانتحارالأعمى…، وبمعزل عن كل من حول القضية إلى “موجة” للركوب، و”تبوريدا” في الشوارع، وصلت حد الحموضة ودرجة الاستنكار…