عزالدين بورقادي
لم يعد الشارع المغربي يتكلف عناء التفكير في السياسة أو في أحوال رجالها الذين يصارعون في الوقت الضائع من أجل مكان داخل المنظومة المريضة بداء الجرب، كما لم يعد المواطن المغلوب على أمره يعرف حتى اللون السياسي الذي يميز المنتخب الذي أعطاه صوته، فالألوان كثرت والأحزاب اختلطت عليه، وبرلماني المدينة في حالة فرار دائم، فرار من واقع مرير وعد يوما أنه سيسهم في نمنمته وتنميقه بركام من التمني الذي لا يحقق المطالب.
لم يعد المثقف المغربي يمارس فعل القراءة أو يتصفح جريدته اليومية مع قهوة الصباح، ليسبر أغوار ما يجري من متغيرات حثيثة توشك أن ترسم تاريخا جديدا أو أن تصيب الواقع بشيء من النمطية، فالجريدة تلزمها قهوة لاحتواء عالمها والقهوة يلزمها قضيب أو اثنين من الدخان اللعين، كما أن الظرف ليس مناسبا لممارسة الثقافة على حساب الخبز الذي أصبحت صناعته تقتضي مزيدا من التفرغ، ولأن بناء المستقبل وإن كان الغموض يلف كثيرا من جوانبه، يستدعي النضال ولو زائفا بشتى أشكال التعبير التي قد تتخذ مسارا عنيفا كرد فعل طبيعي تجاه ضغط شديد تفرضه حياة الضعيف وسط من هم يتمتعون ولو جزافيا بقليل من السلطة.
لم يعد المدرس المغربي يقتحم الفصل على تلاميذه بالابتسامة العريضة التي عهدناها في الزمن الجميل، فحكماء الوزارة الذين لا ينقطع عطاؤهم ولا ينضب معين نظرياتهم العرجاء، حكموا عليه بالتخندق وسط زخم البيداغوجيات المستوردة، وأثقلوا كاهله بمشاريع كلامية غير قابلة للتنفيذ، ليجد نفسه في الأخير مجرد أداة مستعملة أو جسر لعبور الرداءة.
لم يعد الزوج يمسك راحة زوجته ويذهب بها في نزهة لمراقبة الغروب، أو لاصطياد فراشات الربيع، لأن زمن الرومانسية أصبح جزءا منسيا من التاريخ، بل أصبح في ظل الحراك الاستثنائي الذي يعيشه الشارع، ضربا من الحمق أو صنفا من الجنون، فالكلام عن الحب في زمن الصراع من أجل التواجد، كلام باطل مفرغ من محتواه، وافتراء مقصود على مبادئ التحدي الذي تفرضه أزمة الخبز.
لا شك أن الماضي بتراكماته ورغم رجعية التعامل مع كثير من أحداثه التي أثرت في راهننا السياسي المريض، يبقى فاعلا ومؤثرا أساسيا في حاضرنا، وإذا ما اعتبرنا الأخطاء الجسيمة التي اقترفها سياسيونا الكرام، مجرد هفوات ينبغي نسيانها، فلا بد وأن نفكر بالجدية اللازمة في سبل التخلي عن مبادئنا دون مزيد من الخسائر أو الإحباطات، لأن المبادئ أو المواقف لا يمكن أن تضمن للمرء حرية التواجد كفرد مفكر، في طوابير الأغبياء الذين يتنطعون على كراسيهم، ولا يطلون على العالم إلا من خلفية زجاجية لنظارات فاخرة.
فأحوال سياسيينا ومنتخبينا وبرلمانيينا الكرام لا تسر الناظرين، متجهمون عابسون غارقون إلى نواصيهم في ترتيب البيت من الداخل، ولملمة الشظايا والأوراق التي بعثرها انشقاق أو خيانة أو وشاية أو عصيان أو استقالة، فالكائنات الانتخابية بدأ يسمع وقع دبيبها في المحافل والمقاهي وحتى في الحانات والمواخير، حراك مستمر وجعجعة تصطك لها الآذان، وحشد من هنا وتأليب من هناك، صفقات تحت الكراسي ووعود بغد أفضل وشراء للذمم .
ولأن عطر التغيير فاح شذاه في كل الأرجاء، فلا بد وأن يفكر الطامحون للسياسة عبر كراس ٍوإن كانت مهترئة تجود بها عليهم أصوات الصناديق الشفافة، في أساليب جديدة تتماشى مع هبات هذا النسيم، فبعض منهم بدأ يدعي النضال بكل مرادفاته القريبة من مثيل الوحدة والتشارك والتلاحم والتصدي والانخراط وغيرها من الألفاظ الدالة، فطفقوا ينظمون الندوات الفكرية، ويؤثثون طاولات للدراسات المعمقة والبحوث المستفيضة حول حركة الشباب ومسار التغيير، وهو استيلاء مفضوح على أفكار ليست لهم، وتبن ٍغير شرعي لمواقف بعيدة عن ميولاتهم الرخيصة، وتجد البعض الآخر منهم يجند من يعتبرهم مثقفين، فتراهم يعظون ويرشدون في المقاهي وفي أبواب المساجد وداخل سيارات الأجرة، أما أكثر المتفقهين من الحالمين بقيلولة مجانية تحت القبة المحترمة، فأبدعوا أيما إبداع في مناقشة مقترحات التعديل القانوني كل حسب منظوره ووفق مستوى إدراكه، فتجد كل من هب ينظـــّر وكل من دب يتفلسف بأناة العالم المتمكن، أما الأدهى، فهو هذه العدوى التي تنتشر انتشار النار في الهشيم بين المرشحين المفترضين، عدوى التقليد والتنافس من أجل مكتسبات مفترضة، والسباق نحو كشف أسرار ماضيهم الأسود في سرقة أحلام البسطاء والسطو على حقوق ضعاف البشر، ليس هناك أوقح ولا أرذل من مثل هكذا نضال، نضال الجرب والرداءة.
قد يدرك هؤلاء، وإن في غفلة من الزمن، أن صوت الضفادع على صغر حجمها، يفوق خوار البقر، إذاك سيسقطون سهوا من ذاكرة التاريخ.