الألباب المغربية/ إبراهيم فاضل
في زمنٍ تهيمن فيه السرعة على كل تفاصيل الحياة، ويقيس فيه الناس المسافات بعدد الأميال المقطوعة في الطائرات، يقرر شاب مغربي أن يسير عكس التيار، وأن يعود إلى أصل المعنى؛ إلى الصبر، والإيمان، والعزم.
عبد العزيز الناصري، ابن مدينة هوارة بإقليم تارودانت جهة سوس ماسة، يكتب اليوم واحدة من أكثر القصص الإنسانية إلهامًا في العالم المغاربي، بعدما قطع آلاف الكيلومترات مشيًا على الأقدام من مدينة طنجة في أقصى شمال المغرب، متجهًا نحو مكة المكرمة، في رحلةٍ تجمع بين المغامرة، والروحانية، واكتشاف الذات.
- البداية من طنجة… حين يتحول الحلم إلى طريق
لم تكن فكرة الرحلة وليدة لحظة حماس، بل نداءً داخليًا يسكن عبد العزيز منذ سنوات. كان يسمع منذ صغره قصص الأجداد الذين كانوا يسافرون إلى الديار المقدسة مشيًا على الأقدام، في رحلات تستمر شهورًا طويلة عبر الصحاري والجبال والبحار.
وحين كبر، قرر أن يُعيد إحياء تلك الذاكرة المنسية، أن يعيش التجربة لا كحكاية تُروى، بل كرحلة تُعاش بكل تفاصيلها.
انطلق عبد العزيز من طنجة يحمل حقيبة صغيرة، وعلم بلاده، وإيمانا كبيرا. كانت أولى محطاته في مدن الشمال، ثم عبر الصحراء المغربية الكبرى باتجاه الكركرات، آخر نقطة حدودية في أقصى الجنوب، حيث بدأ أول فصول التحدي الحقيقي.
- من “دانكير” إلى “جمل” إلى “طيسلا”… ذكاء المغامر وصبر المسافر
في البداية استعان عبد العزيز بحمار أطلق عليه اسم “دانكير”، ليحمل أمتعته عبر المناطق الجبلية والطرق الصحراوية. لكن مع عبوره الأراضي الموريتانية، اضطر إلى الاستغناء عنه بعد مشقة طويلة.
اقتنى جملًا من السكان المحليين، لكنه لم يصمد بدوره أمام قسوة المسير، فقرر عبد العزيز الاعتماد على نفسه بالكامل، وصنع بيديه عربة يدوية سماها “طيسلا” في إشارة رمزية تجمع بين روح الابتكار والجهد البشري، بين التكنولوجيا الحديثة والإرادة القديمة.
بهذه العربة، واصل الناصري رحلته متحديًا حرارة الصحراء، والرطوبة العالية، والطرق الوعرة، ومخاطر الغابات الإفريقية الكثيفة.
- عبور القارة الإفريقية… بين الجغرافيا والإنسانية
من موريتانيا إلى السنغال، ثم غامبيا وغينيا بيساو وغينيا كوناكري، وصولًا إلى سيراليون وساحل العاج، يقطع عبد العزيز يوميًا ما بين 30 و60 كيلومترًا سيرًا على الأقدام، يعبر الأنهار أحيانًا ، ويبيت أحيانًا في العراء أو ضيفًا لدى عائلات محلية.
اليوم، وقد وصل إلى أدغال الكوت ديفوار “ساحل العاج”، يواصل الشاب الهواري مسيره بثبات نحو ليبيريا، غير آبهٍ بالمخاطر التي تواجهه في الطريق.
خلال هذه الرحلة الطويلة، تعرّض لمحاولات نصب وسرقة أكثر من مرة، وواجه وحوش الغابات والحيوانات المفترسة، فضلاً عن تقلبات الطقس القاسية من أمطار استوائية غزيرة إلى حرٍّ خانق أو بردٍ قارس.
ومع ذلك، ظلّ محافظًا على ابتسامته وروحه المرحة، مؤمنًا بأن “كل خطوة تقرّبه من الله”.
- مغاربة العالم يفتحون له الأبواب
في العديد من المدن و العواصم الإفريقية، استضافه مغاربة مقيمون في الخارج، قدموا له المأوى والطعام والدعم المعنوي. بعضهم انتظر قدومه لأيام فقط ليلتقي به ويشد على يده.
يقول عبد العزيز في أحد مقاطع الفيديو ” المغاربة في إفريقيا هم السند الحقيقي، يمدونني بالقوة في كل محطة… أشعر وكأن الوطن يسير معي أينما ذهبت.”
- ظاهرة رقمية تلهم الملايين
تحوّلت رحلة عبد العزيز الناصري إلى ظاهرة رقمية ملهمة يتابعها الملايين على فيسبوك وإنستغرام وتيك توك واليوتيوب.
فيديوهاته اليومية توثّق مشاهد الطريق، اللقاءات العفوية مع السكان، واللحظات الصعبة التي يعيشها وحده في عمق الغابات.
تجاوزت بعض منشوراته مئات الآلاف من المشاهدات، وامتلأت التعليقات بعبارات الدعم والتشجيع:
“الله يحفظك يا بطل”، “سفير المغرب في إفريقيا”، “رحلتك درس في الإيمان والصبر”.
حتى صفحات إعلامية مغربية وعربية تناولت قصته، واعتبرته “رمزًا للإصرار المغربي، وإحياءً لروح الرحلات القديمة نحو الحج”.
- أكثر من رحلة… إنها رسالة
رحلة عبد العزيز الناصري ليست مجرد عبور جغرافي من طنجة إلى مكة، بل رحلة في عمق الذات الإنسانية.
هي نداءٌ للعودة إلى البساطة، إلى الصبر، إلى الإيمان الذي لا يقاس بالمسافات بل بالنية.
هي أيضًا رسالة مغربية إلى العالم: أن هذا الوطن لا يُعرَف فقط بمدنه وأسواقه وسياحته، بل برجاله الذين يحملون رايته في أقاصي الأرض بكل تواضع وفخر.
في كل محطة، يرفع عبد العزيز العلم المغربي، يلتقط صور و فيديوهات مبتسمًا، يدعو فيها للجميع بكل ما هو أجمل.
- نحو الحلم المقدّس
وما تزال أمامه آلاف الكيلومترات قبل أن تطأ قدماه أرض الحرمين، لكن عزيمته لم تتراجع لحظة واحدة.
في كل بثّ مباشر، يكرّر جملته التي أصبحت شعارًا للملايين من متابعيه “كل خطوة تقرّبني إلى الله”.
بهذه البساطة والعمق، يمضي عبد العزيز الناصري، حافي القلب، قوي الإرادة، حاملًا راية الإيمان والعزم من طنجة إلى مكة المكرمة… مشيًا على الأقدام.
رحلة لن تُنسى، لأنها ليست مجرد مغامرة، بل أسطورة إنسانية تُكتب بخطى مغربي واحد يمشي بثبات نحو الحلم المقدّس.