الألباب المغربية/ ذ. محمد خلاف
“لَسْتُ أَنْسَاكِ وَقَدْ اَغْرَيْتِني ** بِفَمٍ عَذْبِ المُنَادَاةِ رَقِيْقْ
وَيَدٍ تَمْتَدُّ نَحْوي كَيَدٍ ** مِنْ خِلاَلِ المَوْجِ مُدَّتْ لِغَرِيْقْ”
بقايا باب عتيق؛ وصديق قديم؛ تتداعى كمعاول تحفر في ذاكرة بنت بها العناكب بيوتا؛ واستوطنتها دهاليز النمل؛لكن ومضة واحدة تكفي لكي يسترجع الواحد منا والآخر ماكانت عليه حياته في زمن جميل تفوح منه رائحة ياسمين أبيض مجبول بعطر الطين بعد أول شتوة؛ في مدينة عشقناها كما تعشق النساء لها طعم وسحر يخصها كحضن حان؛ على مرمى حجر من السحر ؛ وقبالة الأفق المعلق بأسوار الأمنيات؛ كانت الحياة فيها بسيطة واللمسات الإنسانية متعددة؛ كانت أزقتها الضيقة ممتدة كالبحر وعالية كالسماء بالنسبة لأطفال “لاربعا” وعشاق “لاربعا”؛ وعلى أرضها الطيبة تشابكت أولى نظرات الحب؛ وربط أولاد الحارات صداقات لم تمت؛ وإن باعدت الأيام بيننا؛ تماما مثل جميع صداقات الزمن الجميل كلها ورود بلا أشواك؛ وعصافير بلا أجنحة؛ لاتشوبها شائبة؛ولوتعرضت للفتور واختلاف وجهات النظر؛ سرعان ما يزول ويتلاشى في أول مصارحة ؛ورجوع إلى الحق؛ امتدت منذ الصغر؛ وكبرت وازدادت مع الأيام قوة وترابطا؛ وتماسكا؛ كانت كمظلة ساعة شمس حارقة؛ أو مطر مستمر؛ وكان الصاحب للصاحب كرقعة ثياب؛ ساحبا إلى الخير فقط؛ تجمعك معه آنية واحدة للغداء تتلاقى الأيادي لتحل البركة؛ وجرة ماء تحوي ماء بمعادن لا تتغير؛ يستلد الجميع بمائها بعد مشقة يوم؛ وكان الرغيف الذي خبزته أمهاتنا للجيران وليس لنا؛ زمنا كان الصديق بئرا تستطيع أن تبوح له بأسرارك وأن يشاركك أفراحك وأتراحك؛ إنها بحق صحبة الود والحلم؛ والكيان الذي يسكن الوجدان؛ عشرة رائعة تسابقت عليها الشمس والقمر لتقبيل خدودها؛؛؛؛ ألفة الزمن الجميل كانت ولا تزال أنشودة الروح والقلوب؛ هبة السماء ومحراب البهاء؛إنها أجمل وأنقى وجوه الحياة كما قال بالزاك؛ كانت كجبل شاهق لا يتسلقه إلا الأوفياء؛ دون مكالمات هاتفية طويلة؛ ولا رسائل متواصلة؛ ولا لقاءات كثيرة؛ فقط الأصدقاء يرون أنفسهم من خلال الآخرين؛ وإذا تاهت نفس أحدهما وجدت عند الأخر في منتهى الرقي؛ عكس صداقات اليوم؛ مرافقة المصلحة؛ والتزلف؛ والوصولية؛ والولائم العامرة؛ جميعها تتعرض إلى النكران والقطيعة لأتفه الأسباب؛ ولو كانت في اختلاف وجهة نظر؛ أو تفسير تصرف مفاجئ؛ أو زلة بسيطة؛ فيتناسى الطرفان ماكان بينهما من ود ومحبة طيلة عقود من الزمن فيتباعدان وتنسيهما الأيام تلك المخادنة الحلوة العذبة؛ ويندم كل منهما على اتخاد الآخر خليلا؛ صداقات حلاوتها ولذتها لذة (الفاست فود)؛معاشرات كالمال اكتسابها أسهل من الحفاظ عليها؛ فلمن تقرع الأجراس اليوم؟!! وهو ما أدانته ماجدة الرومي حينما غنت، كم جميل لوبقينا أصدقاء؛ صداقات سريعة النضج؛ سريعة الفناء.
تلاشت الصداقات الجميلة؛ مع تلاشي حب “لاربعا” الأنثى الغجرية؛ التي لا تفرط في الأحبة؛ كما يفرط البشر؛ زمناجميلا أخذتنا الدروب رفقة الأصدقاء خلف ظلنا في رحلات تسكع جميلة بالحي الإداري ومنطقة إفران على نغمات شدو أعشاش السنونو؛ عائدة برائحة المطر؛ ظلت ذكرى وذكريات صداقتنا تلازمنا كالظل الذي أضناه المسير؛حيث كانت جميلةو قوية كلاربعا؛ بهواء أنظف؛ وماء أعذب؛ كلام أجمل؛ وتعامل أرقى؛وتعليم أفضل؛ ونزاهة أكثر؛ وحبنا لبعضنا أكبر؛ وتآخينا أعظم؛ زمن الطيبة والنخوة والرضى؛ زمنا كنا نشم الندى من جبين “لاربعا” لحظة انبلاج نور الصبح بإشراقاته ولآلئه النفيسة؛ كقنديل غاز؛ وضوء شمعة في ليالي طويلة كصدغ حبيبة ومدينة ووطن؛ وسيبقى في قلبي حب أنثى عربية إسمها “لاربعا”، مهما تغيرت وتغير الصديق بها….
ودوما سأردد مع ميخائيل نعيمة، متى يصبح الصديق بمثابة نفسك فتلك المخادنة الحقيقية…..