الألباب المغربية/ سمير السباعي
ينطلق الموسم الجامعي الحالي بالمغرب 2023-2024 على وقع هندسة بيداغوجية جديدة قررت وزارة التعليم العالي ببلادنا الشروع في تنفيذها، ضمن خطاب رسمي يؤكد على ضرورة تحقيق تناغم للجامعة المغربية بمسالكها التكوينية مع التحولات الاقتصادية والرقمية العالمية والوطنية على حد سواء. الأمر الذي يطرح معه السؤال حول واقعية هذه الإجراءات خاصة أن منها ما ارتبط بإحداث مسالك تكوينية جديدة داخل عدد من الشعب، والتخلي في نفس الوقت عن أخرى خاصة مسالك الإجازة المهنية التي لم يعد لها وجود انطلاقا من هذا الموسم داخل بعض الكليات المغربية. ضمن هذا السياق نجد أنفسنا مضطرين للحديث عن واقع وآفاق تدريس مسلك التاريخ في الجامعة المغربية طالما أن هذا الأخير يعتبر من المسالك ذات الاستقطاب المفتوح بكليات الآداب والعلوم الإنسانية، الذي لازال يستقطب نسبة لا بأس بها من حاملي الباكالوريا خاصة في الآداب والعلوم الإنسانية. صحيح أن الواقع السوسيو- اقتصادي في المغرب قد عرف تحولات عميقة جعلت من الصعوبة بمكان الآن استمرار الكلام عن الآفاق المهنية التقليدية إن صح التعبير لمثل هذه المسالك داخل المشهد المغربي والتي كانت مرتبطة بشكل وثيق في السابق إما بالالتحاق بقطاع التربية والتعليم أو بقطاع الثقافة والآثار بالنسبة لمن كان لهم الحظ في اجتياز منافذ تكوينية إضافية أو الاستفادة من ترقيات أو توظيفات مباشرة لها علاقة بهذا القطاع، إلا أن ما يهم الوقوف عليه بدرجة أولى أن تجربة تدريس التاريخ كمسلك قائم الذات في الجامعة المغربية منذ أن تأسست نواتها الأولى نهاية الخمسينات من القرن العشرين، يطرح أمام الفاعل التربوي تساؤلات حول واقع الدرس التاريخي الجامعي في بلادنا بين ما عرفه زخم في الأمس وما يعيشه من تحديات في اليوم. لا يمكن حقيقة إنكار أن الرعيل الأول من المؤسسين لدروس التاريخ في كلياتنا أمثال إبراهيم بوطالب ومحمد المنوني وإبراهيم حركات ومحمد حجي وجرمان عياش رحمهم الله قد ساهموا بشكل كبير في تشكيل الأبجديات الأولى للدرس التاريخي داخل حرمنا الجامعي المغربي بعد أن جعل أغلبهم من الوثيقة المادية شرطا منهجيا لبناء معرفة تاريخية مغربية ممكنة وهو ما كان له أثره في تكوين عدد من الباحثين المغاربة الذين اختاروا التخصص في التاريخ في العقود الثلاثة الأولى بعد الاستقلال، بشكل أفرز إنتاج عدد من البحوث خاصة منها ذات الطبيعة المونوغرافية التي عملت على تسليط الضوء على قضايا مهمة من تاريخ المغرب قبل الاستعمار وبعده حضر فيها النقاش حول تاريخية عدد من المؤسسات السياسية والاجتماعية ببلادنا فيها بنسبة أكبر. المهم في كل هذا أن هذه الأبحاث التي قام بها هؤلاء الباحثين المغاربة الشباب آنذاك مثلت بشكل كبير إضافة علمية حقيقية وإذكاء للنقاش الثقافي العام، الذي شهدته الساحة المغربية حينها حتى وإن طبع في لحظات سياسية كثيرة بطابع إيديولوجي. وقد حفز هذا المناخ الجامعي العام عددا من الطلبة والباحثين المغاربة في ما بعد للانتساب للدرس التاريخي وجعله جواز مرور بالنسبة لكثيرين ليس فقط للاندماج المهني في سوق الوظيفة العمومية وإنما سعيا للحصول على أرضية معرفية تمكنهم من التفاعل مع التحولات المجتمعية في بلادنا ولعب أدوار ثقافية تتجاوز المنظور التقليدي الجمعي حول التاريخ كحكي أو سرد للماضي، إلى العمل على إنتاج خطاب معرفي بأدوات منهجية يعمل على نشر الوعي بتاريخية المؤسسات والظواهر في المجتمع والدولة بالمغرب وعمقها الزمني. خصوصا أن انفتاح بعض الباحثين الجدد أنفسهم على وثائق جديدة ليست بالضرورة الوثيقة المكتوبة من قبيل الصورة والرواية الشفوية، قد عزز من اندماج البحث التاريخي المغربي بشكل أكبر وتكامله مع تخصصات ومعارف أخرى داخل الجامعة و إن بدا الأمر منحصرا في الخطاب وبعض المفاهيم الإجرائية، طالما أن الأمر تعلق في مجمله بتجارب بحثية شبه فردية لم ينظمها بشكل كبير أي إطار مؤسساتي بحثي واضح المعالم، على الأقل داخل بلادنا باستثناء بعض المسارات البحثية لباحثين مغاربة اختاروا إتمام تكوينهم في بعض البلدان الأوروبية خاصة فرنسا. أما الآن فالمتتبع لحصيلة الدرس التاريخي بكلياتنا المغربية يكاد يجزم على ضبابية المشهد، بالنسبة لجيل جديد من الطلبة المغاربة الذين ولدوا وترعرعوا في ظل التحولات الرقمية الجديدة والذين يمثل لكثيرين منهم الحاصلين أساسا على الباكالوريا الأدبية الانتساب للشعبة التاريخ في الجامعة الملاذ الأخير في ظل محدودية باقي الاختيارات سواء داخل الجامعة أو معاهد التكوين المهني، وهو ما يشكل حسب كثيرين عطبا جوهريا يمس في العمق التطلعات الحقيقية المرجوة من الباحث المغربي في التاريخ كفاعل ثقافي قادر على التفاعل مع القضايا المجتمعية، بحس نقدي ينتصر للعمق الزمني في فعلنا التاريخي العام والخاص على حد سواء في المجالات الاجتماعية أو الاقتصادية والسياسية. هذا أخذا بعين الاعتبار عمق الإشكال المطروح داخل الجامعة المغربية اليوم والمتعلق بضعف الحصيلة التعليمية، عند أعداد كبيرة من الطلبة التي لها علاقة مباشرة بالارتباك العام الذي لا زالت منظومة التربية والتعليم تشهده ببلادنا رغم الرفع المتكرر لشعارات مدرسة الحياة ومدرسة ذات جودة. وهو أمر يدعو إلى ضرورة تكثيف المحترفات والورشات والأندية النشيطة داخل الحياة الجامعية القادرة على إصلاح أعطاب الكتابة والتحرير و القراءة والنقد عند غالبية هؤلاء الطلبة الجدد وتأهيلهم لرسم آفاق مهنية أخرى بشكل يسهل دمجهم في الدرس الجامعي دون إثقال كاهل هذا الأخير، الذي يبقى من أهم وظائفه العمل على تأهيل وتكوين باحثين مغاربة متملكين نسبيا للأدوات المنهجية الأساسية في البحث التاريخي استمرارا لنجاح مسارات أكاديمية نموذجية لأساتذة باحثين أمثال فاطمة العيساوي ومحمد معروف الدفالي وخالد السرتي ومليكة الزهيدي وحسن أميلي والطيب بياض وعثمان المنصوري وآخرين أخذوا على عاتقهم حمل مشعل الرواد من مؤسسي الدرس التاريخي في جامعتنا المغربية. مع الحرص في نفس الآن على دعم مختبرات البحث في التاريخ المنتشرة في عدد من كلياتنا بشكل يجعلها قادرة على تدشين تجارب بحثية تتقاطع وتتكامل مع باقي التخصصات والعلوم، دون إغفال ضرورة تثمين بعض المنجزات البحثية التي ينجزها بعض الطلبة في هذه الكلية أو تلك والتي لازالت تبشر بإمكانية بروز جيل جديد من الباحثين كضامن لاستمرارية مركزية السؤال التاريخي كبوصلة معرفية قادرة على أن توجه باقي أسئلة المعرفة والتحليل حول واقعنا المغربي ورهاناته الحاضرة وآفاقه المستقبلية.
ٱفاق الدرس التاريخي في جامعتنا المغربية اليوم
اترك تعليقا