الألباب المغربية/ ميمونة الحاج داهي
نأيتُ بنفسي طويلا عن الخوض في السجالات الدائرة حول أساليب بعض الكتّاب والصحفيين في تصفية حساباتهم. لم يكن ذلك ترفّعا بقدر ما كان رهانا على أن اللغة الرديئة تسقط من تلقاء نفسها، وأن القارئ، مهما طال صبره، يميّز بين النقد والتشفي. لكن يبدو أن الأمر تجاوز حده الطبيعي، ولم يعُد مجرد انفعال أو مبالغة، بل صار نمطا متكررا ومُرَادا، يحرجنا جميعا أمام الحياد، ويُشعرنا أن الصمت في هذه اللحظة لم يعد حكمة، بل تواطؤًا ضمنيا مع الإسفاف.
أنا لا أدافع عن السياسيين، ولا أضع الفنانين فوق المساءلة، بل أومن أن من ارتضى الواجهة، عليه أن يُحمِّل كتفيه ثقل النقد، وأن يحتمل حرارة الأسئلة.
لكن ما نُشاهده مؤخرا لا علاقة له بالنقد، لا في نبرته، ولا في لغته، ولا في نواياه، هو أقرب إلى هجوم يستهدف الأشخاص لا الأفكار، ويسعى إلى التحطيم لا إلى التفكيك، ويمارس الإهانة بضمير مستريح، كأنما السب نوع من الفطنة، والتهكم موهبة إعلامية.
هل يُعقَل أن نُقنع الأجيال الجديدة بأن الشتم رأي؟ وأن الوصف السوقي تحليل؟ وأن الصحافة تُؤدي وظيفتها حين تتحول إلى مكبر صوت للغل؟
شيء ما ينكسر حين يُصبح الإعلام ساحة تصفية لا مساحة مساءلة. وشيء أخطر يحدث حين نُعمّم السخرية، فنُهمّش الجدية، ونحوّل الطعن إلى نشاط يومي مباح.
لا أحد يطلب من الأقلام أن تتجمّل، لكن كثيرين يطلبون منها أن تتماسك. لأن الكلمة، كما قال بعض الحكماء، إن لم تُكتب لتبني، فغالبا ستهدِم، ولأن حرية التعبير ليست حقا في الإيذاء، بل مسؤولية في القول. مسؤولية تُحتِّم أن نزن العبارة قبل أن نطلقها، وأن نُدرِك أن تجريد الأشخاص من إنسانيتهم لا يمنحنا قوة، بل يكشف هشاشة الخطاب وضعف الحجة.
وليس هذا دفاعا عن أحد بعينه، بل دفاع عن الذوق العام، عن الحد الأدنى من النبل في الخلاف، عن تلك المساحة التي نختلف فيها دون أن نحطّم بعضنا. فحين نُسرف في الإساءة، نُسيء للكل. للرموز، وللخطاب، وللذائقة، ولنفوسنا أولا.
قد نملك أن ننتقد، وقد نبالغ أحيانا، وقد نشتدّ في لهجتنا، لكننا لا نملك أن ننحدر، ولا أن نُقنع الناس أن الانحدار نوع من الشجاعة.
في النهاية، لسنا مطالبين بأن نتشابه، ولا أن نتسامح مع الخطأ، ولا أن نلزم الصمت حين يستوجب الموقف الكلام، لكننا مطالبون بشيء واحد فقط: أن نحترم أنفسنا ونحن نكتب، أن نحافظ على نظافة ألسنتنا، لأن الكلمة مرآتنا، وإن انكسرت فيها الأخلاق، لم يعد للنقاش معنى، ولا للاختلاف قيمة، ولا للرأي أثر.