الألباب المغربية/ محمد خلاف
قدمت الخلوة للعالم روائع أدبية ساحرة، حفظها التاريخ على مر الأجيال، على اختلاف مسبباتها، اختيارية كانت أم إجبارية، والكاتب الكبير عبد الله المتقي رائد القصة القصيرة جدا حلق في زفيفه بعيدا، محاولا اكتشاف المجهول، ساعيا إلى الاستراحة من أعباء الحياة، والتعبير عما يخالج النفس والتجارب الحياتية بالكتابة… أدمن العزلة، التي يشكو كثير من الناس منها، أما هو فقد رباها وعقد صداقة حميمة معها، فالعزلة هي قدرته على التباث، يشعر أنه إذا فقد العزلة فقد نفسه.. ومنها أمضى بالخيار السردي بعيدا نحو الكتابة باللعب أحيانا… يكتب بعفوية، ونتيجة استجابة مباشرة دون إلزام، مع التركيز على الحكاية والهزء وعلى الجوانب الكاريكاتورية للواقع تهكما من هذا العالم وعليه..، يحلم، يتذكر، يتوهم، يتصور، يصحو، يصمت… وقد يدندن أحيانا…. في (الكرسي الأزرق،) و (الأرامل لا تتشابه)، و(أيس كريم رجاء)، (لسان الأخرس)، و(يعطيك دودة)….كتب عبد الله المتقي فمنح الجسد حريته ليعبر عن مخاضه ولذاته، بدل الظلم الذي طالما كابده، فمنح عبد الله المتقي الجسد كل الكلمات المتوفرة ليقول ما شاء، ضدا على الممنوعات التي قيدته لكثير من الأزمنة والأحقاب.. فكتب لجسده وجسد الآخر بلغة خاصة لايعرفها إلا عبد الله المتقي، فالجسد عنده كما يقول يخدش، ينتهك، يتمرد، يغتسل، يرقص، يتمرغ، ضدا على الأغلال، وما الكتابة سوى فسحة لتحرير هذا الجسد… علمته العزلة السخاء لمنح كل ما لديه للآخر، ليعبث به، ليحرقه، غير مهجته لأنها بداخله….. أجزم أنه موغل، وليس واغل في الإنسانية، بفؤاد دافئ في هذا الزمن الرطيب، يحب الآخر بلا حدود، في عزلة لا زال يروضها متى شاء وأنى شاء…. يحبها رغم أنها نوع من الألم عند البعض، علمته تصريف أفعال الجنان بحرية العصامي..، العزلة عنده مصفاة الذات والنفس والجسد، يجيب دوما عن سؤال يحير البعض عبر إبداع فاتن.
ماذا لو كنت وحدي؟ فيصدح أنا الذي عرف أن الأرامل لا تتشابه، وأن الشعر لا يرتدي بذلة عسكرية ولا يضع خراطيش في جيوبه…..
العزلة هي اختياره الإبداعي والنفسي نحو نجومية يكرهها، يصعد بإبدعاته إلى قمة الجبل، لكي يكتب، وما زال يكتب…. ويصور ويرسم ويتنفس..
كتابات عبد الله في المتقي في صنف القصة القصيرة جدا، والتي يعتبر من أبرز روادها وطنيا وعربيا موغلة في الاختزال والتكثيف يسعى من وراء ذلك إلى تركُ مساحةٍ للقارئ من أجلِ التأويل، كما يطغى عليها طابع السخرية لبعث رسائلَ مشفّرة للقارئِ لفكّ شفراتها، ينهيها دوما بقفلة مدهشة لا يمكنُ لها أنْ تخطرَ على بالِ القارئ، وهنا مكمن المُفارقة، طبعا بكلمات محدودة، هي سر التميز والأناقة، ويرجع ذلك كله إلى اختياره العزلة والحرية كأرض لإبداع، كي يعطي ذاته مساحة واسعة، كما الروائي كافكا الذي أكد على أن العزلة طريقة للتعرف على النفس، فالحرية عند عبد الله المتقي هي امتلاك إمكانية العزلة، كتاباته تعلوها شفافيَّة الموقف الحساس الذي يظهر مدى بساطة الشخصيَّة في عالم مليء بالقسوة والنرجسية الفجة. في كل أعماله يتوحَّد جمال الفكرة مع رشاقة السرد المتصاعد عبر الدهشة إلى ذروة التعجُّب يلعب على سبر الحالة النفسيَّة لأبطال القصص، يجعل المرء يدرك تماماً أية حساسيَّة يمتلكها الكاتب حتى وصل به الأمر إلى هذا الإخراج اللافت في إظهار الشخصيات على هذه الدرجة من التشريح النفسي العميق، فالعزلة هي الهواء الذي يتنفسه عبد الله المتقي يرى صوته فيها، فهي التي صنعت إبداعه الجميل، فكتب عنها العزلة تصنعك، والوحدة تربيك، إنني لم أكن هكذا، لكن وحدتي صنعتني، وإذا أردت أن تحس بقيمتك، فعليك أن تبقى وحيدا… الوحدة نزاهة الروح، العزلة صديقك الحميم، ومعلمك القريب، والغريب الذي تأمنه، والمسعف الذي يستعد لإنقاذك من الخطر.
هي معبده، يذهب إليها ويعتكف داخلها، فهي تفسخ الروح المتسخة من البشر، وتطهرها، حيث تقف صفا إلى صف أمام ذاتك، تنقيك من كل ضعف وخطيئة، تنزع ما علق من الذكريات وتغسلها، تمنح ذاتك الوقت الكافي لتبقى حيا في ظل هذا الجسد الذي أرهقته السنين… يؤمن أن الكتب مرشدة في الصغر ، وتسلية في الكبر، ورفيق في العزلة.
يرى أن العزلة راحة من غيبة وفرار من نميمة، ورحمة بالفؤاد من خذلان، ودرء من سقطات اللسان، ورحمات من القيل والقال، فالعزلة عند عبد الله المتقي تزاوج بين الحكمة، وبداية الجنون الإبداعي المتفرد، ومنها بالطبع خرجت روائعه الأدبية، إذ ينفرد بذاته، يتفكر ويتأمل. وهي أطيب أوقاته من الدهر، يقر بها قلبه ويصفو بها ذهنه… أعتزل ليهضم الساعات التي صرفها في مخالطة الناس. فكلما نضج العقل فضل عبد الله المتقي الانعزال والوحدة، وهي زاوية صغيرة يقف فيها أمام عقله، هي وطنه وروحه، وجسده، والفكرة ذاتها جسدها الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي في “أنت في وحدتك بلد مزدحم”، والذي قال الوحدة هي فقر النفس أما العزلة فهي ثراءها… وإلى أي مدى يستطيع عبد الله المتقي أن يرد على اونوريه دي بلاك الذي قال: العزلة أمر جيد، ولكنك تحتاج لشخص ما لتخبره بأن العزلة جيدة ؟؟