الألباب المغربية/ محمد خلاف
من منطق نجيب محفوظ القائل أن الثقافة هي أن تعرف الناس؛ تعرف الأشياء والعلاقات ونتيجة لذلك ستحسن التصرف فيما يلم بك من أطوار الحياة؛ ومن منطق ونصائح علال أن العلاقات الطيبة مع الأهالي بمثابة امتلاكك مسدسدا لحظة هجوم عدو غادر؛ كنت أخذت عهدا عن نفسي أن أتصرف بحلم وأناة مع الأهالي شيبا وشبابا لأن الماء دائما يأخذ شكل الإناء كما يقول اليابنيون؛ وفعلا كانت لدي علاقات لازالت وطيدة الى يومنا هذا مع عائلات شتى بادموسى وادبلا (عائلة اسلميون) واد بولخد (عائلة بواركان)؛ فالصيت أهم من الغنى أحيانا كثيرة وأدركت أن العلاقات الإنسانية تبدو سهلة عند المتسلط والخاضع فقط؛ تشاركت مع أهل سوس عامة ومنطقة عملي الكثير من الذكريات الموشومة؛ دخلت ديارهم؛ أكلت على موائدهم؛ تعرفت على ثقافتهم الراقية في مناسبات شتى بشكل حضوري؛ صمت رمضان بين ظهرانيهم؛ وحضرت عيد الفطر؛ وحضرت أعراسا عدة؛ ففي رمضان نكون في الغالب ضيوفا عند أبرز العائلات بالمنطقة؛ اذ لا تخلو المائدة السوسية من الحساء أوالحريرة كسائر مناطق المغرب، لكنها تدعى هنا (اسكيف)؛ والتي يتم إعدادها من المنتوجات المحلية كالشعير (تومزين) والذرة (اسنكار)؛بالنظر لقيمتها الغذائية العالية التي تعيد للجسم حيويته بعد يوم طويل من الصيام؛ وتحفل المائدة السوسية خلال رمضان بالتمر والبيض والعسل وأملو وأركان والشباكية السوسية؛ وخبز تفرنوت المحلي الرائع؛ لكن أكلة (اكرن اجان) أو الطجين ذو الرائحة الزكية هي الأكثر شعبية خلال رمضان بمناطق سوس.
ولا تكتمل المائدة السوسية خلال شهر رمضان دون حضور الأصدقاء والأحباب للإفطار جماعيا؛ تليها صلاة التراويح بمسجد الدوار؛ ثم سمر ليلي رفقة كؤوس الشاي لغاية السحور.
أما عيد الفطر في مداشر سوس؛ فهو شحنة نفسية؛ حيث تلتئم الأسر حول وجبة فطور صباحية بخبز تفرنوت؛ بالإضافة إلى زيت أركان والعسل الأصيل؛ والسمن البلدي؛ كما يتم الحرص على توزيع الفطرة على المحتاجين والصلاة جماعة بمصلى الدوار والحضور لوجبة (أمغرا) وهي فرصة للتسامح والتلاحم بينهم؛ خصوصا بحضور عدد كبير من أبناء الدوار المهاجرين بشتى المدن المغربية وبلباس سوسي أصيل قوامه البلغة (ادوكان) والفوقية.
أما العرس السوسي ( تمغرة) وتفسيرها النداء والاستدعاء؛ كقيمة رمزية واجتماعية؛ فيستمر مدة تفوق 3 أيام تباعا؛ تعم فيها الفرحة والفرجة جميع أنحاء الدوار؛ فبدأ يفقد بريقه واحتفالية مشاهده اذ تأثر بظاهر الحياة العصرية ومع التكنولوجية الحديثة وغزوها لأبعد المناطق؛ فحضرت النكافة والسيارات؛ بدل الدواب. والهودج ونساء القبيلة اختصاصيات الموضة والتجميل. حضرت أعراسا كثيرة ومتفرقة واستمتعت برقصة أحواش الشهيرة بجبال الأطلس الصغير؛ رمز القوة والكرم والشهامة السوسية؛ حقيقة عاداتهم وتقاليهم غاية في الروعة حافظوا عليها لأسباب متعددة كرغبتهم في الإحساس بالهوية؛ وعدم خلق الهوة بين الأجيال؛ وتعزيز الرابطة؛ وخلق الذكريات.
في سنتي الثالثة بالفرعية اخترت أنا وزملائي الجدد باعتبار أن هذه المجموعة المدرسية نقطة عبور الخريجين الجدد فقط؛ وقليل من المعلمين الذين امضوا أكثر من سنة دراسية بها لصعوبتها على كافة الأصعدة؛ استغلال منزلين أحدهما للنوم فقط والٱخر للطبخ بحكم تواجد منزل شاغر وصغير ملتصق بأحد الاقسام؛ وكانت علاقتنا بالأهالي جيدة. تطبعنا بعاداتهم ولباسهم وتقاليديهم. شخصيا اكتسبت عادات جديدة قتلت بها أخرى قديمة. بعدما أصبحت قيدوم المعلمين لأن وعدي لنفسي الانتقال الى مسقط الرأس أو ادموسى؛ كان منطقي الخاص ذاك الإبان.
سنتي الثالثة بالفرعية كانت قاسية جدا أحسست فعلا بالملل والرتابة لهذا خلصت الى قرار بمعية زملائي الجدد هو السفر نهاية كل أسبوع الى مدينة تيزنيت أو غيرها هدفنا تكسير أجواء الفرعية بعدما أصبحت الحياة معلبة؛ وتكرر الروتين اليومي لدرجة تبدو حياة بدون هدف؛ بدأت أبحث عن قيمة الحياة في المسافة بين ميلادي وحيدا وموتي وحيدا؛ بدأت أبحث عن الحب والثقة في النفس؛ فاخترت الغوص في كتاب المدينة الموحشة مغامرات في فن الاختلاء لأوليفيا لاينغ.
خوفي من الشعور بالوحدة والذهاب الى مكان يصعب الوصول اليه بالواقع؛ دفعنا جميعا الى الاتفاق على قضاء كل نهاية أسبوع بمكان محدد سواء فرعية أو مدينة أو دوارا؛ متحدين الصعاب وكلفة الرحلة ماديا؛ باعتبار السفر هو الشيء الوحيد الذي تنفق عليه وتزداد غنى؛ وهنا سنعيش مغامرات السفر ومتعته؛ اذ كنا لا نهرب من الحياة بقدر ماكنا نخشى أن تهرب الحياة منا. وسنكتشف إفران الأطلس الصغير وتافراوت وكلميم وتيزنيت وميرلفت وأكادير، وهو موضوع اليومية المقبلة….