المهدي رحالي
طالما كان للمساجد هدف التنوير بشرع الله وللأضرحة غاية التبرك بكرامات أوليائه وللزوايا مقصد الحج لبوابات مشرفة على تاريخ وحضارة أو حقبة غابرة ومتوارية عن حاضر الناس، غير أن كل هذه المقاصد لم تسلم من سوسة البدع والخرافات، فمفهوم الزاوية بالمغرب جد متشعب التصورات في المخيال الشعبي، فهناك من يراها مكانا لزيارة الأجداد كنموذج القبائل الصحراوية مثلا، وهناك من يراها مكانا لبعض الطقوس المنضوية تحت لواء الشعوذة أو البدع على الأقل، كبعض نماذج الزوايا في الصويرة وغيرها من مشاتل الأضرحة، وهناك من لا يرجح لأي منهما ويتفرد بنموذجه، كالنموذج السوسي على سبيل المثال لا الحصر.
حيث نجد في النموذج القبلي للزوايا يتميز بنوع من المحافظة والضبط الديني والأخلاقي، حيثلدى القبائل الصحراوية مثلا يلاحظ اللباس المحافظ والتقليدي لدى كل من الرجال والنساء على حد السواء، مع تنوع وتعدد الاذكار الدينية، فضلا عن الحمولة العلمية والدينية للفعاليات والبرنامج المقام، التي يتميز بوليمة التي تقام على شرف الضيوف من أبناء القبيلة وأبناء العمومة الذين يحجون من داخل المغرب وخارجه كموريتانيا ومختلف الدول المجاورة. فالزوايا الصحراوية تتميز بأنها تُسير بمنطق القبلية وعلى أساس انها في ملكية قبيلة بكاملها، كون غالبية القبيلة لها علاقة قرابة مع الموجود قبره بالزاوية، وحتى إن كانت زاوية دون ضريح أو مقام نجد لهم علاقة تاريخية تتسم بالنضال السياسي والفكري والعلمي ضد كل من حاول المس بهم في الغابر من الأزمنة.
بينما النموذج السوسي يميل أيضا لنوع من المحافظة، مع بعض المظاهر الصوفية التي تتميز بها كل طائفة مما يصطلح عليهم ب“الفقراء”، حيث يضاف على المظاهر الموجودة لدى الزوايا الصحراوية بعض الطقوس كالحضرة الصوفية التي تشتهر لدى المغاربة بلازمة “الله حي، الله حي، الله حي” والتي لها تناظر مع حلقات الحضرة الصوفية التي تقام بتركيا، لهذا يمكن القول إن مواسم وزوايا هذه المنطقة تميل للصوفية والروحانية لكن بالاكتفاء بطقوس زكاها فقهاء سوس وعلماءها بانخراطهم فيها على مدىالعقود السالفة.
وأخيرا نتطرق للنموذج البائن بعده عن الاعتدال والرشاد، النموذج الذي يقوم على المعازف والطبول بنية استحضار ودعوة ما أمكن من ملوك الجن والمردة، وحكم هذه الطقوس من الناحية الدينية واضح وبين عند جميع المذاهب والطوائف، لا من جهة الغايات ولا من جهة الوسائل، فلا الوسيلة تبرر الغاية ولا الغاية تبرر الوسيلة، حيث تجتمع نية الشرك بالله مع اثم المعازف وذنوب التبرج والاختلاط ونحس ملوك الجن وكيد المردة، وهذا ما يعتبر انحرافا كبيرا عن اشكال التصوف والتبرك سالفة الذكر.وهذا ما اشتهرت به بعض الفولكلوريات مثلا حضرة كناوة،التي تقام في جو وطقس الايقاعات والأهازيج المقامة بالآلات كالجمبري والقرقب والطبول، الموازيةلأشعار وقصائد المناداة على أعلام الأضرحة وملوك الجن والمردة، مع استحضار ذبائح التقرب لهم وحرق الأبخرة الروحية،والقيام ببعض الحركات البهلوانية أحيانا والجذبة أحيانا.
أما بخصوص الأضرحة فهي أيضا تتباين بين الموجودة داخل زاوية أو المعزولة منها، فالأولى يكون لها نوع من الحرمة أو الوقار، بينما المعزولة فلا تكون لها حماية ووقار كالأولى، فالأضرحة هي الأخرى تتنوع بين أضرحة تزار للدعاء العادي والتصدق على ما حولها من متسولين، وبين من يقام حولها طقوس من قبيل اشعال الشموع والبخور وتعليق قطع الاثواب والصور والأقفال، وغيرها من طقوس الشعوذة والسحر.
أما بخصوص المساجد فهي مكان يجمع الأغلبية من الطوائف السنية على ضرورة حياده الشعائري، واكتفائه فقط بالسنن النبوية الخالصةدون تفريط،إضافة لما تفتي به المؤسساتالحافظة للوحدة الدينية والروحيةعلى الصعيد الوطني (امارة المؤمنين بالمغرب). ودون التطرق لمستجدات فتاوي هذا العصر، فهناك ضوابط تنظم ارتفاق المسلم، تأطرها أحاديث وآيات بشكل واضح ومباشر، من قبيل معايير اللباس الساتر للعورة، شروط الامامة، آداب دخول المسجد، آداب الصلاة، آداب الانتفاع بمرافق المسجد، آداب الاستماع للخطبة، آداب التطيب والتزين… إلخ.
وهذا ما يجعلنا نتساءل حول ضرورة خلق مدونة مساجد وزوايا تؤطر كل هذه الطقوس والآداب والمساطر تسمى مثلا مدونة الاخلاق والتصوف المغربي، لكي تنضاف للترسانةالتشريعية التي تؤطر كلا من الوضعية القانونية والمالية والتنظيمية وكل ما يتعلق بالمساجد والزوايا والأضرحة، ما يوجب ضرورة تكريس المركزية الدينية المساجد والقرب الصوفي للزوايا والأضرحة، أي الإبداع في الاتباع دون ابتداع. حيث عدم تأطير وجرد كل هذه التمظهراتوالطقوس من أدعية والبسة وعادات وأطباق، سيؤدي مستقبلاللبس وضبابية تاريخية لدى الأجيال المستقبليةفي الذاكرة الشعبية وعلى الصعيد الأكاديمي، من قبيل الانحراف عن أصل العبادة والطقسوالعادة أو مقاومته للثقفي واسترجاعه، بسبب كتابة الأجنبي لتاريخنا أو فراغ مراجعنا من توثيقها حينها.