الألباب المغربية/ أحمد زعيم
في الوقت الذي تعاني فيه مناطق واسعة من المغرب القروي من عطش جماعي يزداد تفاقما، يعيش إقليم الفقيه بن صالح على وقع أزمة مائية خانقة تتغذى من غياب رؤية استراتيجية فعلية، ومن مشهد موسمي يتكرر: ندوات وملتقيات تُنظم تحت عناوين براقة، ثم تتبخر بمجرد انطفاء أضواء الكاميرات. شعارات من قبيل “الحلول البديلة”، “العدالة المائية” و”التنمية المستدامة” تُرفع في القاعات المكيفة، تُلتقط الصور، وتُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات المجالس الترابية، بينما الفلاح الصغير يراقب أشجار الزيتون والرمان تموت عطشا، في انتظار حلول جذرية لا تأتي.
رغم توالي اللقاءات وتعدد العروض الأكاديمية، تظل الحصيلة هزيلة ومحبطة، الفرشة المائية تُستنزف بشكل يومي، والحفر العشوائي ينتشر داخل الضيعات الفلاحية الكبرى دون رقيب أو محاسبة، لوبيات نافذة مكونة من منتخبين وسياسيين محليين تفرض قبضتها على الأراضي السلالية، التي تُكترى بأثمنة رمزية، لتحول مياهها إلى مشاريع تجارية مربحة تستفيد منها أقلية على حساب المصلحة العامة.
في المقابل، يُترك الفلاحون الصغار لمصير مجهول، بلا دعم، ولا حماية، ولا أفق.
ما يحدث لم يعد مجرد خلل في التدبير أو فشل إداري، بل أصبح تواطؤا سياسيا واقتصاديا مكشوفا. الجهات المعنية تكتفي بالتنظير، بينما شبكة المصالح تتحكم في أحد أهم الموارد الحيوية التي يُفترض أن تكون ملكا جماعيا يُوزع بعدالة واستدامة.
وسط هذا المشهد المقلق، يفضل بعض المنتخبين الإنشغال بتنظيم مواسم “التبوريدة” والإستعراضات الفلكلورية، بدل تقديم تقارير الحصيلة وتقييم الأداء، كما يفرض القانون التنظيمي للجماعات الترابية. تُهدر الأموال العمومية على الولائم والفرجات، وتُبذل الجهود في البحث عن دعم مالي لتمويل عروض فولكلورية، بينما مناطق شاسعة من الإقليم تغرق في العطش، وتفتقر لأبسط مقومات العيش من ماء وكهرباء ومرافق صحية ورياضية وثقافية. هذا المشهد لم يعد فقط استخفافا بالمسؤولية، بل إهانة صريحة لكرامة المواطن، وتجسيد لسياسات التلميع والتستر على الفشل.
قضية الماء في إقليم الفقيه بن صالح لم تعد شأنا بيئيًا أو تقنيا يُختزل في عروض مناسباتية. إنها معركة حقيقية من أجل العدالة المجالية والكرامة الفلاحية، وحق دستوري تُنتهك معالمه في وضح النهار، وسط صمت غير مبرر وغياب إرادة سياسية جادة. الأزمة تتفاقم، ومؤشرات الانهيار البيئي والاجتماعي باتت واضحة.
ما هو مطلوب اليوم ليس خطابا جديدا، بل تفعيل قرارات جذرية وحازمة تبدأ بوقف فوري لنزيف المياه، ومحاسبة كل من تورط في نهب واستنزاف الفرشات المائية، وتفعيل آليات الرقابة على الاستغلال بعيدا عن المجاملات والولاءات السياسية. كما يجب دعم الفلاح الصغير بشكل ملموس من خلال إدماج تقنيات ري حديثة، وإطلاق مشاريع ميدانية لتجميع واستغلال مياه الأمطار بكفاءة واستدامة، وتسريع افتتاح مشروع “تصفية المياه العادمة” وتقديم العدالة لكل من حُرم من حقه في الماء، ومحاسبة لصوص الماء العام دون تردد أو تواطؤ.
إقليم الفقيه بن صالح، وغيره من المناطق المنكوبة، لا يحتاج لمواسم ومهرجانات إضافية، بل إلى عدالة مائية حقيقية تُنقذ ما تبقى من أمل. ومن العبث أن نستمر في مشاهدة نفس المسرحية، بينما الفلاح والأشجار في طريقهما إلى الإنقراض.