مصطفى طه
من المؤكد أنه لا يوجد على ظهر الكرة الأرضية اليوم، كتاب سجل أعمال بني إسرائيل وسلوكهم الأخلاقي ومواقفهم التاريخية.
إن قضية بني إسرائيل فريدة في تاريخ البشرية، ولا تشبه أي قضية من قضايا الاستعمار المعروفة قديما أو حديثا، بل هي من أغرب قضايا الصراع بين الشعوب، فاليهود الذين تميزوا بين شعوب التاريخ القديم بطبيعة الكفر والعصيان وارتكاب المنكرات وقتل الرسل والأنبياء، عاقبهم الله بتشريدهم في العالم، وإنزال العذاب بهم، في كل زمان ومكان وإلى يوم القيامة.
ولكن حكمة الله اقتضت، أن يمنحهم فرصة الدهر فيتيح لهم العودة إلى البلد الذي أخرجوا منه، وإقامة دولة وسيادة عليه بالقوة والقهر، ليقيم عليهم الحجة مرة أخرى، بأن نزعة العدوان والإفساد فيهم لم تتغير، لتشهد عليهم بذلك شعوب الحضارات الحديثة، كما شهدت به شعوب الحضارات القديمة.
إن ما قامت وتقوم به العصابة الصهيونية، من إفساد في أرض فلسطين، قبل وبعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل سنة 1948، لا يمكن أن تعتبر احتلالا أو استعمارا من النوع الغربي التقليدي المعروف، لأنه على خلافهما، يهدف لاغتصاب الأرض وحدها، دون سكانها، الذين لا يجد وسيلة للتخلص منهم، إلا بالإبادة، والتخريب، والتدمير.
لم يعد يخفى على أحد، أن المسلمين في جميع أنحاء العالم، قد هالهم، وألمهم كثيرا موقف اللامبالاة، التي تقفه الدول الإسلامية عامة، والعربية خاصة، من الأعمال الوحشية، والدمار، والمجازر، دون تمييز ضد الرجال والنساء والأطفال العزل في فلسطين.
ولكن الواقع الأليم والمرير، الذي يعيش فيه العرب بطوله وامتداده وتكراره، يكاد يزيل عن العالم، الانطباع الذي أخذه عن تاريخ العرب، حيث لا يعرف اليوم عنهم، إلا حياة الترف، وقصص المجون، وتبديد المال في الملهيات، وتقليد الغرب في المظاهر، وشغف زعمائهم بالكلام والتنديد.
هكذا، فقد العالم العربي الجزء الأكبر من رصيده الحضاري والتاريخي، فعوض أن يستثمر ثرواته البشرية والاقتصادية والثقافية الهائلة، ليكون فاعلا قويا وأساسيا ومؤثرا في القضية الفلسطينية، للأسف قدم موارده ومصادر قوته جميعا، في طبق من ذهب ومجانا، للدول الغربية وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، لتحقيق أهداف الكيان الإسرائيلي، على حساب الشعب الفلسطيني الأعزل.
فقد خسر العالم العربي معركة التعاون الإقليمي، من داخل جامعة الدول العربية وخارجها، وتخلى عن القضية الفلسطينية بطريقة غير مباشرة، وظهر ضعفه وهشاشة بنياته، وفقد وزنه في موازين القوة الإقليمية والدولية.
إن الإفساد الحالي للكيان الإسرائيلي، ليس له مثيل في التاريخ كله، ولا يمكن أن يكون صدر من بني إسرائيل قديما ما يشبهه، أو يقرب منه، لأنه اغتصب أرض فلسطين برمتها، من شعبها، وقتل، وأحرق، وعذَّب، وطرد هذا الشعب من أرضه، كما خرَّب، ودمَّر مدنا وقرى، واستعمل في ذلك أحدث أسلحة الدمار والتخريب، وتواصلت عمليات هذا الإفساد، أكثر من ستين سنة حتى الآن، ولاتزال قائمة، وهي مصحوبة في نفس الوقت، بعلو كبير أي بسيادة وقوة ونفوذ سياسي ومالي، لا على أرض فلسطين وحدها، ولكن على دول الغرب قاطبة، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، ولم ينج من هذا النفوذ روسيا والدول التابعة لها، التي تعترف بإسرائيل وحقها في الوجود.