الألباب المغربية/ عزيز لعويسي
بين واقعة “العامل” الذي أجاد قبل أيام، مهارات التعالي والتوبيخ والإهانة، في مواجهة “مدير إقليمي للتربية الوطنية” لم يكن له حول ولا قوة، وحادثة رئيس مجلس النواب الذي لم يتردد في إشهار فيتو “الإحالة على لجنة الأخلاقيات” لكبح جماح نائبة برلمانية، لها قدرة على المشاكسة والإزعـاج، قد تختلف الأمكنة والأطراف والسياقات والأهداف والمقاصد، لكن هناك خيط رفيع ناظم بين الواقعتين، يعكــس ما بتنا نعيشه من أزمة في الحوار والخطاب، ومشكلة في التدبير والقيادة، إلى الحد الذي لم نعد فيه، نتحمل ليس فقط، بعضنا البعض، بل ونسخر ما نمتلك من قدرات ووسائل، لترويض كل صوت مشاكس أو مزعج أو معارض، ما يتيح فرص السيطرة المنفردة على آلة التحكم عن بعد، ويساعد على ضبط الإيقاعات، بالشكل الذي يخدم المصالح ما ظهر منها وما بطن؛
عندما تغيب المسؤولية ويغيب معها المسؤول الحكيم والمتبصر، يحضر التحكم والتغول، وتتقوى غريــزة إسقاط الخصوم بكل السبل المتاحة، حتى لو كان الأمر يتطلب الزيغ عن سكة الاحترام واللباقة والخروج عن أخلاقيات الروح الرياضية، وفي هذا الإطار، مخطئ من يريد السيطرة على المشهد كاملا بمفــرده، وواهم من يظن أولازال يظن، أن لغة التحكم والتعالي والاستقــواء، تكفي لإخراس الأصوات، وكبـــح جماح الألسنة السليطة، لأن المغرب ملك للجميع وليس ملكا لأحد، وقــوة هذا البلد العزيز، لا يمكن البتة فهمها، إلا داخل نطــاق التعدد والاختلاف، ودائرة الإجماع الوطني حول الثوابت الجامعة للأمة؛
مغرب اليوم، الذي حــقق في ظل عهد جلالة الملك محمد الســادس، قفزات ونقلات نوعية غير مسبوقة، في مجــالات الاقتصاد والتنمية والبنيات التحتية والأشغال الكبــرى، يحتاج اليوم، إلى رجــالات دولة حقيقيين، وإلى قيادات سياسية مسؤولة ومتبصرة، تخدم الوطن بتضحية ونزاهـة ونكران ذات، وتنخـرط بوعي وإدراك في رسم صورة جميلة ومشرقة، لمغرب يتحرك وينهـــض في صمت؛
حينما نتمادى في ممارسة الشطط في استعمال السلطة، أو ندوس بأقدامنا على المفهوم الجديد للسلطة الذي أطلقه عاهل البلاد منذ جلوسه على العــرش، أو نتدرج في درجات التعالي والاستقواء، إلى الدرجــة التي لا نسمح فيها، لأي صوت معارض أو مشاكـس أو مزعـج، بالبـوح والتعبير والمعارضة والاحتجاج، أو نحول مجلس الأمة، إلى حلبة لإسقاط الخصوم وترويض المزعجين، بدل التباري بشرف، لخدمة الصالح العام والمصلحة الفضلى للمواطنات والمواطنين، أو نحاول فرض تشريعات ضد الإرادة الشعبية، فنحن للأسف، نكرس صورة مؤلمة، لا تليـق بمغرب لم يعد كمغرب الأمس؛
القوة المغربية الآخذة في التشكل في سياق جيوسياسي إقليمي ودولي موسوم بالقلق والتوتر وعدم الاستقرار، والتحديات المرتبطة بالوحدة الترابية، وما تراهن عليه المملكة الشريفة، من رهانات اقتصادية وتنموية واستراتيجية وإشعاعية، كلها اعتبــارات من ضمن أخرى، تفرض التجرد من عادات المصلحة العمياء وطباع الأنانية المفرطة، والارتقـــاء بمستوى السلوك السياسي الذي وصل إلى درجات مقلقة من البؤس والانحطاط، والانخراط المسؤول في خدمة الوطن وقضاياه الاستراتيجية، بعيدا عن حمى الهواجس الانتخابية ووجع المصالح السياسوية الضيقة، وبمعزل عن أية غريزة جانحة نحو الاستقواء والتحكم والتغول؛
مغرب القاضي عياض الذي قيل فيه “لولا عياض لما ذكر المغرب”، ومغرب “جامع القرويين” أقدم جامعات العالم، والمغرب الذي فرض سلطته على مساحات واسعة من الغرب الإسلامي بما فيها الأندلـس، والمغرب الذي امتدت جذوره في عمق إفريقيا، ومغرب “الشريف الإدريسي” الذي طبع تاريخ الجغرافيا العالمية، ومغرب “بن بطوطة” الذي جاب الأقطار والأمصار، ومغرب “معركة وادي المخازن” التي أسقطت عرش الإمبراطورية البرتغالية، والمغرب الذي وقف سدا منيعا أمـام الامتداد العثماني، ومغرب “المقاومة والاستقلال”، ومغرب “ملحمة المسيرة الخضراء المظفرة”، ومغرب “تجربة الإنصاف والمصالحة”، و”مغرب البراق وطنجة المتوسط والداخلة الأطلسي والبنيات الطرقية والسككية والرياضية”، و”مغرب المبادرات الملكية الخلاقة” التي تروم وضع إفريقيا على سكة الإقلاع التنمــوي الشامل…، لا يستحق البتة، ما بتنا نعيشه من خطاب سياسي بئيس، ومن انحطاط قيمي وأخلاقي، واتساع لدائرة اليأس وفقدان الثقة في الدولة والقانون والمؤسسات، وامتداد لقرص الاستعلاء والاستقـواء، يستحق رجالات دولة حقيقيين ومسؤولين تتوفر فيهم شروط القيادة، يصنعون الأمل ويكرسون الإحساس الفردي والجماعي أن “مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس”، يستحق من يخدم الوطن بصدق ونزاهة وأمانة ونكــران ذات، من يخلص لله والوطن والملك، من يعي أن حب الأوطان، من الإيمان، ويدرك تمام الإدراك، أن المصالح جميعها، لن تكون إلا حقيـرة وبئيسة، ما لم يحضر معها الوطن وحب الوطن وأمانة الوطن…