الألباب المغربية
نظرا الى العلاقة الوظيفية بين الإدارة المحلية والتنمية، بحيث بات من المؤكد أنه لا يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية على المستوى المركزي/ الوطني دون توسيع الدور الاقتصادي للجماعات الترابية.
ولأن الدور التقليدي للتنمية لم يعد مقبولا في ظل التطورات التي همت طريقة تفكير المجتمعات وتصورها لمفهوم التنمية، فإن الوضع تطلب وضع تعريف جديد للتنمية يستفيد من تراكمات الماضي ويستند إلى منظور جديد يؤكد على التنوع الحيوي والمؤسساتي، وعلى دور مؤسسات المجتمع المدني في التنمية المستدامة، ويهتم بالمشاركة الاجتماعية في التنمية والاستفادة من نتائجها.
في هذا السياق ظهر مفهوم الحكامة الجيدة أول مرة في تقرير للبنك الدولي سنة 1989 الذي عرف الحكامة على أنها نسق جديد من العلاقات والمساطر والمؤسسات التي تتمفصل بها مصالح الأفراد والجماعات وتمارس الحقوق و الواجبات وتحل النزاعات والخلافات، ويقوم على تذويب التراتبية وتشجيع التشارك بين المسؤولين والمساهمين، وحسن التنظيم وتوزيع المسؤولية وصقل القدرات ودعم التواصل داخليا وخارجيا.
وتم تعريف الحكامة أيضا على انها نوع من التدبير المعقلن والرشيد للشأن العام المحلي، وأنها الطريقة التي يتم بها تقليل احتمالات الخسارة في تدبير الشأن العام.
المباديء التي تقوم عليها الحكامة المحلية :
لخصت بعض الإسهامات الاقتصادية والقانونية المبادئ التي تقوم عليها الحكامة المحلية في أربعة مبادئ أساسية، وهي : التخطيط الاستراتيجي، الشفافية، المشاركة، ثم المراقبة والمساءلة .
وهي العناصر التي سنحاول التطرق اليها في ظل القوانين التنظيمية المؤطرة لتدبير الشأن العام المحلي والمنظمة للجماعات الترابية بمستوياتها الثلاث، على أن تقتصر هذه المحاولة على مستوى الجماعة، المنظمة بمقتضى القانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات على أن يتم مستقبلا تناول باقي الجماعات الترابية ( الجهات والأقاليم).
1- التخطيط الاستراتيجي / برنامج العمل :
عرفت اللامركزية ببلادنا تطورا نوعيا على مر ستة عقود من الممارسة والابتكار، ولأن المجال هنا لا يتسع للتفصيل في كل تجربة على حدة ابتداء من سنة 1960، فإننا سنقتصر على الإشارة باقتضاب إلى هذا التطور . ذلك أن تجربة 1960 وإن كانت اللبنة الأساسية لاختيار الديموقراطية المحلية كنظام لامركزي ببلادنا فإن تلك المرحلة تميزت بضعف اختصاصات المجالس المحلية التي كانت تنحصرفي التسيير الإداري المحض بينما كانت السلطة المحلية في ظل تلك التجربة تتمتع بصلاحيات أوسع سواء على مستوى المالي أو الإداري . وستعرف اللامركزية تطورات ايجابية انطلاقا من سنة 1976 حيث اعتبر صدور ظهير 30 شتنبر 1976 المتعلق بالتنظيم الجماعي قفزة نوعية في تطور اللامركزية لكونه اعترف للمجالس المنتخبة بصلاحيات هامة على مستوى المالي (الإمارة بالصرف) والتدبير الاداري والاقتصادي . وستلي تلك المرحلة تجارب متعددة انتهت بصدور القانون التنظيمي الحالي 113.14 لسنة 2015 مرورا بالميثاق الجماعي لسنة 2002 المعدل بقانون 2009. وهي تجارب تميزت باسناد اختصاصات هامة للجماعات في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ويتصدر برنامج العمل ( المخطط الجماعي للتنمية في ظل قانون 2002 ) صلب تلك الصلاحيات التي اسندت للجماعات، حيث نصت المادة 78 من القانون التنظيمي للجماعات على أن الجماعة تضع برنامج عملها في السنة الأولى من انتداب المجلس يتضمن الأعمال التنموية المقرر انجازها أو المساهمة فيها بانسجام مع توجهات برنامج التنمية الجهوية ووفق منهج تشاركي وبتنسيق مع عامل الإقليم بصفته مكلفا بتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة . كما نصت نفس المادة على أن برنامج العمل يتضمن تشخيصا لحاجيات الجماعة وإمكانياتها
وتحديدا لأولوياتها وتقديرا لمواردها ونفقاتها التقديرية.
وقد صدر المرسوم التطبيقي لهذه المادة ( مرسوم 2.16.301 بتاريخ 29 يونيو 2016 بتحديد مسطرة اعداد برنامج العمل وتتبعه وتحيينه ) مركزا على أهم عناصر الحكامة المحلية، ويتعلق الأمر بالمقاربة التشاركية إذ نص في مادة السابعة على أن برنامج العمل يتم إعداده وفق منهجية تشاركية، وإنه لهذه الغاية يقوم رئيس المجلس بإجراء مشاورات مع المواطنين والمواطنات وفق الآليات التشاركية للحوار والتشارك المحدثة لدى المجلس بمقتضى المادة 119 من القانون التنظيمي للجماعات، و مع الهيئة الاستشارية المكلفة بتفعيل مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع المنصوص عليها في المادة 120 من نفس القانون.
2- الشفافية كعنصر من عناصر الحكامة المحلية : تعتبر الشفافية إحدى الخاصيات الأساسية التي يرتكز عليها التدبير الجيد للشأن العام المحلي، وتعني توفير المعلومة وإفساح المجال امام الرأي العام للإطلاع على المعلومات الضرورية لأجل توسيع المشاركة والرقابة والمحاسبة ومن أجل التخفيف من الهدر والتصدي لمظاهر الفساد الذي قد تشوب بعض أعمال الفاعلين على المستوى المحلي.
وتشكل العلانية إحدى أهم مكونات عنصر الشفافية التي تشمل الجوانب الادارية والمالية للنشاط الإداري بحيث تتم إتاحة المجال أمام أفراد المجتمع للإطلاع على مختلف الأنشطة الإدارية للمجالس المنتخبة ومثال ذلك ما ورد في المادة 48 من القانون التنظيمي للجماعات من أن جلسات مجلس الجماعة تكون مفتوحة للعموم ويتم تعليق جدول اعمال الدورة وتواريخ انعقادها بمقر الجماعة، وما نصت عليه المادة 273 منه بخصوص الزامية تعليق مقررات المجالس بمقر الجماعة في ظرف 8 أيام، وأنه يحق لكل المواطنين والمواطنات والجمعيات ومختلف الفاعلين أن يطلبوا الاطلاع على المقررات.
ومعلوم أن تدبير الشأن العام المحلي عرف تطورات هامة على مستوى عنصر الشفافية إذ تعززت ترسانته بنصوص على مستويات مختلفة منها ما تعلق منها بطلب الحصول المعلومة أو تلقي الشكايات التي أحدث لأجلها منصات الكترونية في إطار ورش رقمنة الإدارة . ويتعلق الأمر ببوابتي: Chikaya.ma و chafafia.ma
كما أن مبدأ الشفافية يقتضي أن يتم انجاز المعاملات المالية والصفقات وغيرها بكيفية واضحة المعالم تسمح بمعرفة مختلف تفاصيلها واعتماد الشفافية على مستوى منظومة الرقابة المالية التي تتجلى في نشر تقارير الأجهزة المكلفة بهذه المراقبة سواء الإدارية المتمثلة في المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشية العامة للمالية ومكاتب تدقيق الحسابات، أو القضائية الممثلة في المجالس الجهوي للحسابات. ولعل الهدف من نشر خلاصات أجهزة المراقبة يتجلى أساسا في إخبار الرأي العام الوطني والمحلي حول كيفية صرف المال العام ومدى تقيد مدبري الشأن العام بمبادئ الترشيد والفعالية والكفاءة في القرارات التي يتخذونها.
3- المشاركة كعنصر من عناصر الحكامة المحلية :
لترسيخ مفهوم الحكامة المحلية لابد من توسيع دائرة المشاركة بتدخل جميع المعنيين بتدبير الشأن العام من منتخبين ومواطنين وجمعيات المجتمع المدني، والفاعلين في القطاع الخاص وغيرهم، ذلك أن المقاربة التشاركية تعد آلية لصياغة القرار التنموي وتتبعه تنفيذه.
ومن هذا المنظور فإن المشاركة هي آلية يتم تجسيدها من خلال مفهوم الحكامة الداعي لخلق فضاء للتشاور
وتشكيل إطار لتبادل الآراء يفضي الى اتخاذ قرارات صائبة.
وقد سبق القول على هذا المستوى أن المشرع المغربي واكب التطورات بوضع ترسانة من النصوص تدعم الشفافية خصوصا إجبارية استشارة المواطنين وهيئات المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع في قرارات المجالس لاسيما تلك المتعلق ببإعداد برنامج العمل.
ومعلوم أن الدستور المغربي لسنة 2011 نص في فصله 13 على أن السلطات العمومية تعمل على إحداث ھيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلھا وتنفيذھا وتقييمھا. كما نص في فصليه 136 و 139 على أن التنظيم الجھوي والترابي يرتكز على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن، ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونھم، والرفع من مساھمتھم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة، وعلى أن مجالس الجھات والجماعات الترابية الأخرى تضع آليات تشاركية للحوار والتشاور، لتيسير مساھمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها، ويمكن للمواطنات والمواطنين والجمعيات تقديم عرائض الھدف منھا مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله.
4- المراقبة والمساءلة :
ارتباط المساءلة بالحكامة المحلية مرده إلى أن هذه الأخيرة تستوجب وجود نظام متكامل يتوفر فيه عنصر المحاسبة، فبعد المراقبة التي ترمي إلى التأكد من مشروعية النشاط الإداري في شقيه الإداري والمالي تأتي مرحلة المساءلة بإقرار عنصر الجزاء الذي في غيابه تفتقد المراقبة مصداقيتها وفاعليتها. وبذلك تعتبر المساءلة إحدى أهم أدوات الرقابة على تدبير الشأن العام المحلي فهي تعتبر معيارا ضابطا لأداء الفاعلين المحليين وأداة لتقييمهم عندما تتم محاسبتهم من قبل الجهات المخولة بذلك رسميا.
وقد حدد المشرع المغربي آليات المراقبة والتدقيق في المادة 204 من القانون التنظيمي للجماعات حيث نص على أن مالية الجماعة تخضع لمراقبة المجالس الجهوية للحسابات، كما تخضع عملياتها المالية والمحاسبية لتدقيق سنوي تنجزه إما المتفشية العامة للمالية أو المتفشية العامة للإدارة الترابية أو من قبل هيئة للتدقيق تحدد صلاحيتها بقرار مشترك لوزارتي الداخلية والمالية. كما أنه يمكن وفق للمادة 215 من القانون التنظيمي المذكور لمجلس الجماعة تشكيل لجنة للتقصي حول مسألة تهم تدبير الجماعة.
وختاما، وبعد استعراض أهم عناصر الحكامة المحلية معززة بالتجربة المغربية على ضوء القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات، لابد من الإشارة إلى أن هذا الأخير وضع مدلولا للحكامة في مادته 269 وعرفها على أنها قواعد تتعلق بحسن تدبير مبدأ التدبير الحر باحترام مبادئ المساواة بين المواطنين في ولوج المرافق العمومية، والاستمرار في أداء خدمات القرب وضمان جودتها، وتكريس قيم الديمقراطية والشفافية والمسؤولية والمحاسبة، وترسيخ سيادة القانون والتشارك والفعالية والنزاهة .
لكن، ولئن كانت التجربة المغربية في مجال الحكامة رائدة على مستوى الترسانة القانونية والممارسة فإنه يبقى مشروعا أن نتساءل عن بعض النواقص التي تعتري هذه التجربة والتي تحد من فاعليتها يتعلق الأمر أساسا بغياب الاستقلال المالي إذ أن الجماعات تعتمد في نسبة كبيرة من ميزانياتها على الضرائب المحولة والضريبة على القيمة المضافة. إضافة الى عوامل أخرى كمحدودية الموارد البشرية وضعف تأطيرها، وبطء سياسة اللاتركيز ، وعدم تمكن الفاعل المحلي من التمييز بوضوح بين اختصاصات وحدات اللامركزية الثلاث المسماة جماعات ترابية في ظل القوانين التنظيمية الحالية ويتعلق الأمر بالجماعات والجهات والأقاليم.