الألباب المغربية/ ثريا الطاهري الورطاسي
أنا مجرد عابرة في الأرض، أحمل سنوات من جغرافية المكان في دمي، وأعيش في خط كرونولوجي لكل العصور منذ فجر التاريخ إلى اليوم، ودوما يفرحني خطي الزمني المليء بالمحبة والعطاء والغني باللهجة المشتركة بين مختلف المناطق التي فرض علي التواجد بها، والزاخر بالعديد من فترات الألم والإحباطات التي انتابتني، ففي كل منا تستوطن دوائر نخشى طرقها وحتى الاقتراب منها وكأنها إحدى الحقب التاريخية البكر والتي لم نقرأها بعد .
وها أنا اليوم اخترت أن استعرض – منها – بشكل كرونولوجي بعضا من الأحداث والخواطر التي راودتني ولا يزال صداها يرن في القلب والذاكرة، ويقض مخيالي المتعب فكم تمنيت أن أجيد قراءة الناس كما أجيد قراءة التاريخ الذي تشبعت به منذ أن وطأت قدماي كلية الآداب ظهر المهراز بمدينة فاس العريقة، علني أعرف كيف اقرأ مابين سطور الأحداث وأستنتج الخلاصات، وكأني أجتهد في توظيف معارفي المهنية للتوصل إلى الفكرة الرئيسية للنص التاريخي.
فيا ليتني أعرف كيف أضع الناس في خاناتهم كما أضع النص في إطاره التاريخي، وأنا التي عشت بين كتب كل العصور والحقب، أدون وأكتب ما أشعر به وأحيانا أتصور ما تمنيته ورغبت في تحققه، غير أن مصطلح “أحيانا” هذا مضى بدون رجعة وتوارت مكوناته عبر الشفق الأزرق، وبقيت أكتب لنفسي – ومن خلالها لكن ولكم أحبتي – بحروف لا يمكن أن يفك شفرتها إلا من يستظمرها ويستنبتها في قاموسه المعملاتي، فيشعر بما تحمله حروفها وأسطرها من خبايا وأسرار، تشكل حياتنا وكأنها مراحل دول متعاقبة عبر سيرورة التاريخ، بدءا من النشأة ومرورا بمرحلة البناء والتطور وانتهاء بالانهيار..
فهكذا حياتنا صارت تتوزع بين حلم يتحقق وآخر يتعثر، لكن لسنا ذاك التاريخ حتى نطوي أيامها، فهي حياتنا تستحق أن تعاش بكامل جنونها وجمالها وكل لحظاتها المتعاقبة، الأمر الذي يجعلني أركبه قطار الجغرافيا متمنية لو كنت كرة أرضية تحرس كل يوم الليل بقمره ونجومه وكواكبه وغبشه، حتى تسلمه مطمئنا للنهار وعندما تطل علينا الشمس من وراء البعيد وترسل خيوطها الذهبية، فأخلد إلى الاستكانة وتتبع حركة الرياح المتجولة بين الأمكنة، أهمس ملتحفة بضجيج الصمت، أروي حكايات الخريف الحزين، خزان كل المآسي وترقب كل الأوراق المتساقطة من حياتنا، فلا أصحو من غفوتي وتأملاتي واسترجاعي لمختلف الذكريات، إلا مع قطرات المطر المروعة وأنا في انتظار جغرافية النضج بخطوط عرضها وطولها فتتحرك فوقها قوارب صغيرة تسير على أمل وجود مرفأ يحتويها، ويجعلها تبوح بملامح الجمال الذي تحتويه باعتباره ذكرى لمستوطني القلب كندب قديمة، وأحيانا يأتي ذاك النضج، لتنبض معه الأرض بحياة مختلفة تغسل أمطارها أرواحنا قبل طرقاتنا، وقد تكون لأجوائه حكايات دفئ تروى مع فناجين قهوة عطرة، وأصوات سجية تحيي في القلب ألف ذكرى، ويعقبها الربيع ببسماته الطبيعية وزرابيه المبثوثة قبل أن تجود الأرض بعطائها والأشجار بغلاتها، ثم يأتي الصيف حاملا معه رسائل مرتقبة وصفاء منتظرا.
أما خطوط الطول فتتمدد مولدة حمية غذائية لا ترحم بساعاتها ودقائقها وثوانيها، وتبقى الساعة – منها – رقما من الأرقام وعدا تنازليا يقاس فيه الوقت بوضوح تام، يجعلنا نستحضر الفارق الزمني بين الأرقام فإذا كانت الدقيقة رمشة صغيرة هاربة يستعصى علينا قبضها مع كل مكالمة آتية من بعيد تبتغي محو أي دمعة، أو تجبر أي كسر أو تزيل عن القلب ما يضنيه، فإن الثانية بعقربها تسير في خطى ثابتة لا تستكين، متوجه بنا نحو نهاية حتمية لا مجال فيها للتراجع يا من هو لعرقب الثواني رهين.
وفي الليل يفيق أحبابنا المنسيون من أدراج الذاكرة ينفضون عنا النوم ليشاركونا طعم الأرق، وفيه تبزغ خيوط الشوق وتجعلنا على أرصفته مسترجعين الذكريات وكل من نشتاق لهم بعد أن غيبهم القدر موتا أو ابتعادا. وقد يطول انتظارنا وبآمانينا نضيء العتمة المهيمنة، فيمر الأحبة في خيالاتنا مرور السحاب، منهم الغيم والمطر، وإليهم الحنين وفيهم الأمل، فهن وهم كالبحار لا يستوون هذا عذب فرات، وذاك ملح أجاج ولله في خلقه شؤون. ومن خلف نافذتي يأتيني صوت لا أعلم صاحبه يدعوني وكل أحبتي، بأن لا نأخذ أحزاننا على محمل الجد، وأن نعتبرها ضيوفا ثقيلة سترحل كما ترحل فصول السنة وأن نعتبرها هزة أرضية عارضة سيزول أثرها سريعا، وأن لا نحمل في قلوبنا أي ألم حتى لا نتحول إلى صحاري باردة، ونسترجع من التاريخ ألف كلام وحكاية وهذه الأرض تدور بنا مع الأيام وفي حقائبنا حنين بوسع المدى وقطر المجرة.