الألباب المغربية/ يونس المنصوري
خطبة الجمعة هي نافذة أسبوعية تُفتح أمام المسلمين لاستقاء التوجيهات الروحية، الفكرية، والأخلاقية من منبر المسجد. ومع ذلك، فإن الخطبة في كثير من الأحيان تبدو كأنها فقدت جوهرها التأملي العميق، لتصبح مجرد تكرار لرسائل معروفة دون الغوص في تفسير القيم القرآنية أو ربطها بواقع المجتمع.
الله تعالى يقول: “وَعِبَادُ الرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا” (الفرقان: 63). هذه الآية تعكس دعوة للإنسان المسلم للتواضع والسكينة في الحياة اليومية، وللرد على الجهل بالحكمة والسلم. التأمل في هذا المعنى يتطلب من خطبة الجمعة أن لا تكتفي بذكر الآية وتفسيرها التقليدي، بل أن تربط هذه القيم بحياة الناس اليوم. كيف يمكننا اليوم أن نُظهر التواضع في عصر التكنولوجيا والتنافس المادي؟ وكيف نحول صفة “الهون” إلى سلوك عملي يُجنبنا الوقوع في الغضب أو العنف في مواجهة التحديات اليومية؟
القرآن لا يقدم نصوصًا جامدة، بل رسائل حية تدعو للتفاعل مع الظروف المتغيرة. على سبيل المثال، قوله تعالى: “إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِ” (النحل: 90). هنا، يظهر التكامل بين القيم الأخلاقية والعملية؛ فالعدل لا يعني فقط إنصاف الآخرين، بل يشمل أيضًا عدل الإنسان مع نفسه، مع وقته، ومع موارده. الإحسان ليس مجرد إعطاء مادي، بل يمتد إلى الإحسان في القول والفعل، والتسامح مع أخطاء الآخرين. الخطبة المثالية ينبغي أن تُبرز هذه الأبعاد وتوضح للمستمعين كيفية تطبيقها في بيئتهم ومجتمعاتهم.
التحدي الذي تواجهه خطبة الجمعة اليوم هو غياب التفسير العميق الذي يربط بين النص القرآني والواقع المعاصر. فبدلاً من التطرق لقضايا حياتية مثل العمل، التعليم، العلاقات الاجتماعية، أو حتى قضايا البيئة والعدالة الاجتماعية، تظل الخطبة حبيسة مواضيع عامة تُعاد بلا تطوير أو تحليل. هذا الجمود يجعل من الخطبة أداة لتلقين النصوص بدلاً من أن تكون منارة للتوجيه والتفكر.
تجديد خطبة الجمعة لا يعني تغيير النصوص أو الاستغناء عن القيم الأساسية، بل يعني تقديم هذه القيم بأسلوب جديد يتماشى مع تعقيدات العصر. على سبيل المثال، يمكن للخطيب أن يتحدث عن قوله تعالى: “قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ” (المؤمنون: 1-2)، ليس فقط من زاوية أهمية الصلاة، بل من زاوية الخشوع كحالة نفسية تُعلم الإنسان كيف يركز طاقاته ويحقق التوازن الداخلي، وهو أمر يحتاجه الجميع في عصر السرعة والضغط النفسي.
الخطب الناجحة هي التي تتحول من مجرد نقل للمعلومات إلى مصدر إلهام يجعل المستمع يفكر في علاقته مع نفسه، مع الله، ومع العالم. لذلك، فإن خطبة الجمعة تحتاج إلى تفسير عميق يُظهر كيف أن القيم القرآنية ليست مجرد مفاهيم نظرية، بل أدوات عملية تعزز الحياة الفردية والجماعية، وتجعل الإنسان يعيش بوعي أكبر بمسؤوليته كخليفة في الأرض.