الألباب المغربية/ ميمونة الحاج داهي
تتسارع وتيرة التحولات التكنولوجية بإيقاع غير مسبوق، لم يعد مفهوم السيادة مقصورًا على الأرض والحدود، بل أصبح يشمل فضاءات رقمية شاسعة تُدار فيها الحروب، وتُعقد فيها التحالفات، وتُشنّ من خلالها الهجمات. اختراق المعطيات الحساسة لملايين المواطنين من قاعدة بيانات صندوق الضمان الاجتماعي ليس حادثًا تقنيًا عابرًا، بل هو اختراق لصلب السيادة، وانتهاك فاضح لخصوصيات أفرادٍ يفترض أن تكون الدولة حامية لهم، لا غافلة عنهم.
ما حدث لا يمكن اختزاله في ثغرة معلوماتية، بل هو نتيجة مباشرة لفقر إستراتيجي في بناء منظومة أمن رقمي وطني، يوازي في أهميته مؤسسة الدفاع التقليدي. في عالم أصبحت فيه المعلومة سلعة ثمينة، بل وأثمن غنيمة حرب، فإن التساهل مع هكذا اختراق يعادل في فداحته التنازل عن شريط حدودي بأكمله.
اللافت ليس فقط في الحدث ذاته، بل في رد الفعل السياسي الذي تلاه. برودٌ قاتل، غياب للوضوح، وصمت يشي إما بالارتباك أو بعدم إدراك حجم الخسارة. لم نرَ تحقيقًا عاجلًا شفافًا، ولا مؤتمرات صحفية أو مؤسساتية طارئة، ولا حتى خطاب طمأنة للمواطنين الذين وجدوا أنفسهم فجأة مكشوفين في وجه عالم رقمي لا يرحم. هذا التعامل البارد مع كارثة من هذا الحجم يكشف خللًا عميقًا في فهم الدولة لوظائفها الحديثة، وعلى رأسها حماية المجال السيبراني باعتباره الامتداد الطبيعي لأمنها الداخلي.
الاستهانة بالوعي الجمعي لا تقل خطورة عن الاستهانة بالاختراق ذاته. الدولة التي تتعامل مع شعبها وكأنه قاصر رقميًّا، تغفل عن حقيقة أن المواطن اليوم واعٍ تمامًا بقيمة بياناته، ومدى حساسية المعلومات التي تم تسريبها، وهو يدرك أيضًا ما تعنيه هذه الثغرة من هشاشة في البنية التحتية الرقمية. ردود الفعل الشعبية، وإن كانت موزعة وغير مؤطرة، إلا أنها تعكس قلقًا عامًا وإحساسًا بالخيانة من جهة يُفترض أن تكون صمّام الأمان.
الخصوصية الفردية ليست ترفًا حقوقيًا في العصر الرقمي، بل هي صلب الكرامة الإنسانية. ومع كل تسريب، تُنتزع من المواطن قطعة من سيادته الذاتية، وتُضاف إلى سوق سوداء لا تخضع لقواعد الأخلاق أو القانون. والمقلق أكثر هو أن الدولة، بدل أن تصدر إشارات ثقة، تلتزم الصمت، وكأنها تقرّ ضمنيًا بفشلها أو، أسوأ من ذلك، بعدم اكتراثها.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط تحقيقًا حول الواقعة، بل مراجعة شاملة للنموذج الأمني الرقمي. سيادة الدولة لا تُقاس فقط بعدد الثكنات أو حجم الجيوش، بل بقدرتها على حماية بيانات مواطنيها، على ضبط الفضاء السيبراني، وعلى الوعي بأن الحرب الحديثة تُخاض على شاشات الحواسيب قبل أن تُخاض على أرض الواقع.
لا خيار أمام الدولة سوى أن تعيد تموقعها داخل هذا العصر الرقمي، لا كمستعمل متأخر للتكنولوجيا، بل كفاعل سيادي مدرك لمعادلات الحرب والسلم الجديدة. أما الاستخفاف بهذه التحولات، فليس إلا وصفة أكيدة لانهيار الثقة، وهي أخطر ما يمكن أن تخسره دولة في هذا الزمن المتسارع.