الألباب المغربية/ محمد خلاف
بعد غياب طويل عن المدينة كله اغتراب وتيه وحيرة وبحث مضني عن أوراق الإقامة بإيطاليا، ولمدة قاربت العقدين من الزمن، عاد بوزكري للاحتماء بدواره التابع إداريا لمدينة الفقيه بن صالح؛ وبعد فترة استراحة وزيارة الأهل والأقارب إذ أصبح غريبا في وطنه وغريبا في غربته، توجه إلى المدينة وفي نفسه تساؤلات راهنة عدة حول مصير “لاربعا” في 2024، فارتطم بمظاهر احتلال الملك العمومي المنتشرة ببشاعة في الشوارع والأزقة، وبتدفق كبير للحمقى والأفارقة، وأصوات تعلو وتخفت، شتائم وصراخ وتوسلات، دراجات صينية تسير بسرعة جنونية، دراجات ثلاثية العجلات مكدسة وسط الطريق، روائح الجوطية تجثم على أنفاس الفضاء؛ في مشاهد أخرى أكثر قباحة تتكرر كل يوم في شوارع مدينة الفقيه بن صالح وفي حركية يومية تغلب عليها النزعة القروية، في إطار ما يصطلح عليه بـ “أرْيفة” أو “ترييف” المدن، نتيجة الهجرة الواسعة التي توافدت على “لاربعا” خلال السنوات الماضية، الأمر الذي أدى إلى غياب الحدود الفاصلة بين المدينة والبادية، بل إن المدينة صارت عبارة عن قرية كبرى، بعدما ظهرت بها العديد من مظاهر القرية المتهالكة، فبدا له جليا أنه انتهى الزمن الذي كان فيه أهلنا يخافون علينا في الغربة.. وأصبحنا نحن في غربتنا نخاف عليهم في الوطن.
جنح بوزكري ذات يوم أحد إلى مقهاه المعهود قرب المحطة الطرقية الذي كان يخبره جيدا قبل مغادرته “لاربعا” مكرها، وكان السجال قويا بين الأخلاء؛ أثناء لعب الكارطة حول نتائج الإتحاد السلبية الأخيرة، وحول كرة القدم ب”لاربعا” بين ماضيها الخالد؛ وحاضرها الملغز؛ ومستقبلها المجهول؛ فسأل بوزكري في خفة وحنين عن أخبار النوري وباسو وصقري والمعطي وهشام والشاوي.. لأنه كان مشغوفا بتتبع مباريات الإتحاد ضد الوداد والرجاء والماص والكاك؛ دوما تراه بمدرجات الشمس حاملا مذياعه السحري الأحمر المربوط بالمطاط من كل الجوانب؛ يعرف جيدا برنامج الأحد الرياضي وصوت عبد اللطيف الشرايبي، والرايس والراحل امحمد العزاوي والبقية؛ أخبره أحد أصدقاءه بحال وأحوال الفريق الآن؛ وأنه يلعب في قسم الهواة مع فرق مغمورة جدا؛ فريق بدون هوية؛ ولا ألقاب ولا روح قتالية؛ وينهزم داخل الميدان وخارجه، فتذكر صورة عماري عبد القادر ببني ملال وفمه المحطم؛ وصور عماري كيبير والمرحوم الجابيري وقدومي بخنيفرة والأقمصة الملطخة بالوحل حبا في “لاربعا”؛ تأثر كثيرا وهو من كان صديق الرئيس الزروالي والمدرب بلعيد؛ والكاتب العام محمد فرح والمرحوم بوزكري الغياط؛ وهو من له صور مع المرحوم الظلمي وعزيز بودربالة والحداوي والفيلالي وكل النجوم التي زارت الفقيه بن صالح؛ بحرقة واستهجان تساءل عن أسماء اللاعبين والمسيرين الحاليين وأصلهم وعلاقتهم بكرة القدم؛ تساءل عن السبب في انحطاط الفريق وعلاقة ذلك بالسياسة والانتخابات؛ تساءل عن انسحاب أهل الاختصاص من الميدان؛ وفتح المجال لكل من هب ودب لمناقشة أمور الفريق؛ وكيف أن واد زم وبني ملال وخريبكة وسوق السبت أصبحت لها فرق أحسن منا بكثير؛ وهم من كانوا يطلبون لاعبي الاتحاد للاستفادة من خدماتهم؛ وهم من كانوا إلى وقت قريب يحجون إلى “لاربعا” لمشاهدة الإتحاد يهزم أعتى الفرق الوطنية طريقة ونتيجة؛ تذكر بألم عماري كبير زمن وداد الأمة بملعب محمد الخامس؛ وحضار وسعد الله والدحاني واجدي والغربي والزيتوني، والجزوالي و……؛ إلى درجة ألقى أوراق الرونضة من يده وأبى إتمام الطرح؛ قائلا بلكنة إيطالية (Guai a chi l’ha causato)، فشعر أنه سرق مرتين من الطغاة والغربة معا… ثم تساءل عن حال كرة اليد بالمدينة وتاريخها الراقي؛ وتذكر غنو وخبحان وقبقة ودلال والبقية؛؛ وعن أبطال الكراطي والتكواندو والجمباز والملاكمة القدامى بالمدينة؛ فأخبروه بأن الرياضة والثقافة ككل بالمدينة أقبرت نكاية وبدون أسباب من قبل أشخاص تفننوا في تحقير المدينة؛ وأبدعوا في تحويلها إلى قرية بمتناقضات عدة؛ حزينة ومهدمة تتكئ أطلالها على أطلالها.
واصل بوزكري جولته الصباحية بالمدينة حتى وصوله إلى الملعب البلدي؛ وقف مشدوها لحاله؛ فلاحظ انعدام الحياة والروح فيه؛ بعدما كان مشتلا لتفريخ النجوم؛ ومكانا للفرجة الكروية والضحك والتشجيع مع نجوم المدرجات زمنا جميلا كالجعد وولد سلطانة.. وحيث كان الملعب يشكل ركنا بعيدا في ذاكرة بوزكري؛ يحتفظ بتفاصيل صولات وجولات الإتحاد زمن لقبته الصحافة بقاهر الكبار؛ شعر بوجع الحنين فرحل دون وداع؛ وفي ذاكرته ألف حكاية جميلة عن الإتحاد يتلوها كل مساء على مسامع أبناء الدوار؛ متحسرا عن حاله بعدما تزاوج الفساد وخبث النوايا بالمدينة؛ فتوالدت بشاعة صور. وسيعيش بوزكري على صوت يهمس بأذنه باستمرار؛ يسمعه يقول له أن ظلام الليل لن يطول.. فليس هناك أقسى من مجد تستعيد ذكرياته وأنت في القاع.