الألباب المغربية/ عزيز لعويسي
كنا سنقف وقفة احترام وتقدير أمام المسؤول الحقوقي الذي نعث قبل أيام، الأساتذة المشاركين في الإحصاء العام للسكان والسكنى ب “العطاشة”، لو وجه بوصلته نحو معضلة “العطش”، في ظل ما بتنا نعيشه من إجهاد مائي مثير للقلق، وكنا سنكون سعداء، لو قدم لنا الرجل من مخيلته الواسعة، بعض الحلول المبدعة والمبتكرة، التي من شأنها الدفع في اتجاه مواجهة إشكالية الماء، خاصة وأن هذه المادة الحيوية والاستراتيجية، تعد مدخلا لضمان وتعزيز جملة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، ومنها الحق في الأمن والاستقرار والحق في الشغل والحق في العيش الكريم والحق في التعلم …
لكن الرجل الحقوقي، الذي يفترض فيه ضبط حركات وسكنات أفكاره، والتحكم ما استطاع إلى ذلك سبيلا في لسانه، حرصا على عدم الوقوع في أية زلة لسانية “حقوقية” أو “أخلاقية”، أبى إلا أن يترك “العطش” على أهميته وراهنيته، ليوجه رماح نقده، نحو نساء ورجال التعليم، وخاصة منهم الأساتذة المرتقب مشاركتهم في استحقاق الإحصاء العام للسكان والسكنى، واصفا هؤلاء ب”العطاشة”، في توصيف رأى فيه الكثير إساءة وإهانة واستهزاء وتطاول غير مقبول على أسرة التعليم برمتها؛
مبرر الرجل من توزيع “صكوك العطش” على الأساتذة “الإحصائيين”، هو اتهامهم بعرقلة الدخول المدرسي، والمساس بحق فئات واسعة من المتعلمات والمتعلمين في التعلم. وفي هذا الإطار، نتساءل أين كان الرجل في زمن كورونا وما واجهته المنظومة التربوية من مشكلات وإكراهات، كان من تداعياتها المباشرة، التأثير المباشر على زمن التعلم، وعلى الاستمرارية البيداغوجية، في ظل الصعوبات الموضوعية والواقعية التي واجهت “نمط التعليم عن بعد”، ولماذا لم يسمع له صوت، خلال الحراك التعليمي المندلع احتجاجا على نظام المآسي، والذي مس بشكل كبير بالزمن المدرسي وبالحق في التعلم، وكاد أن يعصف بالسنة الدراسية برمتها، أو خلال الزلزال العنيف الذي ضرب منطقة الحوز مطلع الدخول المدرسي السابق، والذي كان من تداعياته، تدمير الكثير من البنيات الدراسية واستشهاد مجموعة من المتعلمين ومدرسيهم، واضطراب زمن التعلم، بالنسبة لفئات واسعة من المتعلمين ضحايا الزلزال العنيف، بل وأين هو الرجل، مما تعيشه الكثير من المجالات القروية والحضرية الفقيرة والمعوزة، التي تشكل بيئات آمنة ليس فقط، مؤثرة على زمن التعلم، بل ومحركة للهدر المدرسي، بكل ما يحمله من آثار اجتماعية ونفسية واقتصادية وتنموية وأمنية وغيرها، وأين كان في الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2014 وما سبقه من إحصاءات عامة، وأين هو مما بات يعرف بلولبيات التعليم الخصوصي ولوبيات الناشرين، وأين هو مما يعيشه نساء ورجال التعليم من إكراهات مهنية ومشكلات صحية عويصة، بسبب الاكتظاظ المتنامي داخل الفصول الدراسية، وطول ساعات العمل، وبؤس المناهج والبرامج الدراسية، وأعباء الحراسة ومتاعب التصحيح والمسك، والعنف المدرسي، وضعف آليات التشجيع والتحفيز، وتواضع بنيات الاستقبال… فهل يحضر “زمن التعلم” حسب الرجل، في استحقاق وطني ينظم كل عشر سنوات وتتعبأ له الدولة بكل مستوياتها، وتغيب شمسه في قضايا تربوية واجتماعية ونفسية واقتصادية، تؤثر في صمت، بدرجات ومستويات مختلفة، على “زمن التعلم” وعلى بلوغ مرمى “بيئة تعليمية” لائقة، في قطاع يعد قاطرة التنمية ودعامتها الأساسية؟
بمنطق ذات الرجل، إذا كانت مشاركة الأساتذة في عملية الإحصاء ستؤثر على زمن التعلم، فماذا يمكن القول بالنسبة لباقي المشاركين في هذا الاستحقاق الوطني وخاصة فئات واسعة من موظفي الإدارات العمومية والجماعات الترابية؟ ألا تؤثر مشاركتهم لمدة شهر كامل، في سيرورة العمل في المصالح التي يشتغلون فيها؟ وفي المساس بحقوق المرتفقين؟ وبذات المنطق، نتساءل: ما الفرق بين هدر” زمن التعلم” وهدر “حق المواطن المرتفق” في قضاء مصالحه وحوائجه الإداريـة؟ وأيهما أجدر بالخرجة الإعلامية والترافع بحرقة، هل “هدر زمن التعلم” في استحقاق وطني ينظم كل عشر سنوات، يقتضي التعبئة المجتمعية الشاملة، لمقاصده الإصلاحية والتنموية؟ أم “هدر زمن الإصلاح” و”هدر المال العام” و”الهدر المدرسي والجامعي” و”الريع السياسي والحقوقي والنقابي”…؟
المبرر الثاني للرجل، هو أن انخراط الأساتذة في هذا الاستحقاق الوطني، من شأنه حرمان الطلبة والمعطلين من فرص شغل مدرة للدخل، وهذا الرأي غير سديد تماما، لأن هذه الفئة محتاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى تكوينات حقيقية ميسرة للولوج إلى سوق الشغل، وإلى فرص شغل قارة، تتحقق معها الكرامة والاستقرار والطمأنينة، لا إلى فرص شغل موسمية، أقرب إلى “البريكولات” كل عشر سنوات في مواسم الإحصاء العام للسكان والسكنى، وفي هذا الإطار، وبدل توزيع “صكوك العطش” على الأساتذة المشاركين في الإحصاء، كان الأجدر، مساءلة الحكومة، التي تتحمل وحدها، مسؤولية إحداث فرص شغل قارة لفائدة خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس العليا، والدفع في اتجاه تقديم حلول مبتكرة، من شأنها ضمان الحق في الشغل، وتيسير إدماج الشباب في الدورة الاقتصادية، كما كان الأجدر، مساءلة الوزارة الوصية على قطاع التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، لأن الأستاذ/ة الذي ضحى براحته وعطلته السنوية، وانخرط في التكوينات الحضورية المرتبطة بالإحصاء خلال شهر غشت، قبل الانخراط الفعلي في هذا الاستحقاق لمدة شهر كامل، معناه – وهذا حق مشروع – أنه يبحث عن مردود مالي إضافي، قد يسد به بعض ما يعيشه من ثغرات مادية واقتصادية واجتماعية، وعلى الرغم من المجهود المادي الذي بذلته الوزارة ومن خلالها الحكومة، على مستوى تحسين الأوضاع المادية بمناسبة النظام الأساسي الجديد، فإن المجهود المبذول، لم يكن في مستوى التطلعات، بالنظر إلى غلاء الأسعار وارتفاع مستوى العيش، ولم يحقق أي امتياز بالنسبة للشغيلة التعليمية، بعد حرمانها غير المبرر من الزيادة العامة في الأجور التي قررت لفائدة عموم الموظفين في إطار جولات الحوار الاجتماعي، مما يستدعي العناية المستدامة للأوضاع المادية والاجتماعية لنساء ورجال التعليم، حرصا على مكانتهم الاعتبارية داخل المجتمع، واعترافا بأدوارهم المتعددة الزوايا في بناء العقول وصون القيم وصقل المواهب والقدرات، وبمفهوم المخالفة، فمن لم ينخرط من الأساتذة في هذا الاستحقاق الوطني، ليس معناه أنه يعيش رغدا ماديا، أو على الأقل يتموقع في وضعية مادية مريحة، والمسألة في مجملها، ترتبط بقناعات واختيارات شخصية وجب احترامها وتقديرها؛
وعليه، وحتى لا نتيـه بين شعاب هذا النقاش “العطشي” عديم الجدوى والفائدة، من الضروري إبداء الملاحظات التالية:
- الإحصاء العام للسكان والسكنى، هو استحقاق وطني كبير، حامل لأهداف ومقاصد استراتيجية، لما يقدمه من معطيات وأرقام ومؤشرات، من شأنها المساهمة في تجسيد ما يتطلع إليه المغرب تحت القيادة الرشيدة للملك محمد السادس، من مشروع مجتمعي ونموذج تنموي، والتنظيم الدوري لهذه العملية كل عشر سنوات، يشكل – كما ورد في الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى رئيس الحكومة السيد عزيز أخنوش بخصوص هذا الاستحقاق – “اختيارا حكيما يمكن من الاستعداد الجيد لفهم التطور الديمغرافي والسوسيو-اقتصادي لبلادنا بشكل دقيق، واستشراف الاحتياجات المتغيـرة للمواطنين، وإعداد السياسات الملائمة تبعا لذلك”، والمنظومة التربوية الوطنية، لا يمكن لها إلا أن تكون في صلب هذا الاستحقاق، لما قد يقدمه من أرقام ومعطيات ومؤشرات، من شأن الاستثمار الأمثل لها، الدفع في اتجاه إرساء إصلاحات تربوية رصينة ومتبصرة، تقطع مع ممارسات اللخبطة والارتباك؛
- الملك محمد السادس، أشار في ذات الرسالة، إلى أن هذا الاستحقاق الوطني “يتطلب، إلى جانب التعبئة الشاملة لموارد بشرية ولوجستية مهمة، انخراطا وتنسيقا وثيقا وفعالا من لدن جميع الإدارات والمؤسسات العمومية والمصالح اللاممركزة، بالإضافة إلى السلطات والجماعات الترابية والجهوية والإقليمية والمحلية”، وعليه، فانخراط نساء ورجال التعليم في هذا الاستحقاق الوطني كغيرهم من الموظفين والأعوان والطلبة والمعطلين، ما هو إلا استجابة إلى ما تتطلع إليه الدولة من تعبئة شاملة، في سبيل إنجاح هذا الاستحقاق؛
- مشاركة فئات من الأساتذة إلى جانب موظفين وأعوان وطلبة وفئات أخرى، يعبر عن قدرتهم وكفاءتهم في الانخراط الواعي والمسؤول في كافة الاستحقاقات الوطنية من قبيل الإحصاء العام للسكان والسكنى، كما يعبر عن انخراطهم التلقائي في إنجاح هذا الاستحقاق الوطني، من باب واجبات المواطنة، والإسهام الجاد والمسؤول في خدمة المصالح العليا للوطن وقضاياه الاستراتيجية؛
- من زاوية حقوقية، فأي اتجاه يروم حرمان الأساتذة – مهما كان المبرر – من حقهم في المشاركة في هذا الاستحقاق الوطني، هو مساس بالحق في خدمة قضايا الوطن، وضرب لمبدأ تكافؤ الفرص، وتبخيس من قيمة الأساتذة وأدوارهم التربوية والمجتمعية، ومكانتهم الاعتبارية، التي تجعلهم دوما في طليعة القضايا المجتمعية؛
- مشاركة فئات من الأساتذة في الإحصاء، هو قيمة مضافة، من شأنها الإسهام في إنجاح هذا الاستحقاق الوطني، لما يتملكونه من كفايات وخبرات ومهارات تواصلية، قد لا تتوفر في غيرهم من المشاركين، كما أن انخراطهم في العملية، وما يرتبط بها من أبحاث ميدانية، قد يمكنهم من التعرف عن قرب، على الوسط الأسري والاجتماعي للمتعلمين، ما سيساعدهم بدون شك، في فهم الكثير من السلوكاتاللامدنية والحالات التربوية التي قد تصادفهم في مسارهم المهني…
- تزامن الإحصاء مع الدخول المدرسي وما يرتبط به من عمليات، يبقى تأثيره محدودا،بالنظر إلى عدد الأساتذة المشاركين مقارنة مع مجموع الشغيلة التعليمية، واعتبارا للارتباك الذي عادة ما يطبع كل دخول مدرسي، بسبب التسجيل وإعادة التسجيل ومغادرة التلاميذ نحو مؤسسات أخرى، ومشكل إعادة التوجيه، وعدم استقرار جداول الحصص واستعمالات الزمن، ومعالجة طلبات الاستعطاف، والعمليات المرتبطة بسد الخصاص وغيرها، مما يعرقل بعض العملياتالمرتبطة بالدخول المدرسي، ومنها “تمرير روائز التقويم التشخيصي” وما يرتبط به من دعم ومعالجة، في ظل الارتباك الذي يعتري عملية الالتحاق الكامل للمتعلمين بالفصول الدراسية؛
- عملية الإحصاء ستنطلق فعليا خلال فاتح شتنبر، وستستمر لمدة شهر كامل، والتحاق المتعلمات والمتعلمين – استنادا إلى مقرر السيد وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة رقم 24 بتاريخ 03 يوليـوز 2024، بشأن تنظيم السنة الدراسية 2024/2025 – سيكون أيـام 4 و5 و6 شتنبر 2024، حسب المستويات، على أن تنطلق الدراسة بشكل فعلي وإلزامي يوم 09 من نفس الشهر، بالنسبة لأسلاك التعليم الأولي وأسلاك التعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والثانوي التأهيلي، وهذا معناه، أن المدة الزمنية الفاصلة بين “الانطلاق الفعلي والإلزامي للدراسة” و “انتهاء عملية الإحصاء” تبقى في حدود ثلاثة أسابع تقريبا، وأقل من ذلك، إذا ما خصمنا عطل نهاية الأسبوع، وعطلة ذكرى المولد النبوي، وهذا الفاصل الزمني، يخصص للاستقبال والتواصل وتمرير روائز التقويم التشخيصي وما يتربط بها من دعم ومعالجة، قبل الشروع الفعلي في العمليات التعليمية التعلمية، وغالبا ما يتخلله “التحاق تدريجي” للمتعلمين للأسباب والاعتبارات المومأ إليها أعلاه؛
- أي رأي يتجه نحو الربط بين “الإحصاء” و”هدر زمن التعلم”، يتسم حسب تقديرنا بقصور في الرؤية، من منطلق أن “زمن التعلم” لا يرتبط فقط، باستيفاء المتعلمين لجميع وحدات البرامج الدراسية، بل وبمؤثرات أخرى، منها مدى نجاعة المناهج الدراسية وما يرتبط بها من اختيارات وتوجهات، ومدى فعالية البرامج الدراسية وما تقدمه من عروض تربوية، ومدى جاذبية البيئة المدرسية بكل درجاتها والفاعلين فيها، ومدى قدرة المدرسة لتكون رافعة للارتقـاء الاجتماعي والاقتصادي، ومدى تحمل الأسر لمسؤولياتها التربوية في مواكبة وتتبع المسار الدراسي لأبنائها، ومدى جاهزية واستعداد ومواظبة المتعلمين، ومدى التلاحم والانسجام بين الأطر الإدارية والتربوية وجمعيات آباء وأمهات التلاميذ، في الارتقاء بالحياة المدرسية وخدمة المصلحة الفضلى للمتعلمين، وفي هذا الإطار، فالعبرة ليست في “كم درس المتعلمون من حصص دراسية”؟ أو “هل قاموا باستيفاء جميع الوحدات الدراسية المقـررة لهم”؟بل في “ماذا درس هؤلاء”؟ و”في أي فصل دراسي”؟ و”في أية بيئة مدرسية”؟
- واقع الممارسة المهنية، يظهر أن “عينات كثيرة” من المتعلمين، يهـدرون زمن تعلمهم بأنفسهم، تـارة بعدم مواظبتهم على الحضور وغياباتهم المتكـررة، وتارة ثانيـة بحضورهم عديم الجدوى داخل الفصول الدراسية، وتارة ثالثة بفقدانهم الرغبـة في التعلم لأسباب مختلفة، وعليه، وقبل فتح أي نقـاش بشأن “زمن التعلم”، من اللازم، استحضار العينات المذكورة، وإلا كان النقاش فاقدا لأي معنى. وبالمقابل، وحتى لا نكون مبخسين، هناك نماذج مشرقة من المتعلمين، يستحقون كل الاحترام والتشجيع والتحفيز، لما يتحلون به من مسؤولية ومثابرة واجتهاد وحسن خلق، وهذه المفارقة، تضعنا أمام فئتين من المتعلمين: فئة “تهدر زمنها التعلمي”، وفئة ثانية تحرص عليه أشد الحرص، وفي ظل هذا الوضع التربوي المقلق، ومهما حرص الفاعلون في المجال التربوي، على صون زمن التعلم، فلن يتحقق هذا المبتغى “كما” و”كيفا”، ما لم يتحمل “المتعلم/ة” مسؤولياته التعليمية كاملة، وما لم تتحمل الأسر أدوارها التربوية في مواكبة وتتبع المسار التعليمي لأبنائها؛
- من غير اللائق أن نهدر الزمن أو نستنزف قدرة التفكير وإبداء الرأي، بشأن إحصاء عام ينظم كل عشر سنوات، ومن غير الصواب، أن نختزل هذا الاستحقاق الوطني في “زمن تعلمي” تتحكم فيه عدة مؤثرات أشرنا إلى بعضها سلفا، والإشكالية التي وجب طرحها في خضم هذا “الجدل العطشي” ترتبط بالأساس بمدى “مرونة” المنظومة التربوية، ومدى قدرتها على “التكيف” و”التناغم” مع المستجدات والحوادث الفجائية كالزلازل والأزمات الوبائية وغيرها، وحسب تقديرنا، ما كنا لنصل إلى مستوى هذا الجدل، لو كانت هذه المنظومة “مرنة” و”متكيفة”، قادرة على تقديم الحلول والبدائل بشكل استباقي تبصري، رفعا لكل لبس أو جدل، وحرصا على “بيضة” الزمن المدرسي من أي هدر محتمل، وفي هذا الإطار، نجحت الوزارة الوصية على القطاع، في تجاوز آثار ومخلفات الحراك التعليمي، من خلال اللجوء إلى وضع هندسة جديدة للبرامج الدراسية، جمعت بين ثالوث “الدمج” و”الحذف” و”التعلم الذاتي”، مما مكن الأساتذة من إنجاز جميع الوحدات الدراسية في سنة دراسية صعبة، وكان من الممكن استعجال النشر المبكر لبرامج دراسية “مكيفة”، لتجاوز ما قدر يطرحه الإحصاء من ثغرات تعليمية تعلمية، وفي ذات الآن، لتمكين الأساتذة من إنجاز البرامج الدراسية بسلاسة وأريحية، تتحقق معها الأهداف والمقاصد، ما دامت “العبرة في الكيف وليس في الكم”؛
- إذا ما تركنا مسألة “تكييف البرامج” جانبا، كان من الممكن أن يكون هذا الدخول المدرسي، دخولا “استثنائيا”، لو التزمت الوزارة الوصية على القطاع بالكثير من تعهداتها الواردة في مرسوم النظام الأساسي الجديد، ومنها على الخصوص “التقليص من ساعات العمل الأسبوعية لأطر التدريس”، في ضوء ما خلصت إليه “اللجنة الدائمة لتجديد وملاءمة المناهج والبرامج “التي لازالت “غائبة” أو “مغيبة” عن المشهد التعليمي ونحن على أبواب سنة دراسية جديدة، وكنا سننوه بالحقوقي الذي تكرم بتوزيع “صكوك العطش” على الأساتذة، لو وجه البوصلة نحو هذه اللجنة التي باشرت مهامها طيلة أشهر ودون أن يسمع لها صوت أو رأي حتى اليوم، وعدم التزام الوزارة بالتعهدات، قد يعصف مجددا بحالة الوئام التي سادت المدرسة العمومية منذ طي صفحة الحراك، ويشعل مرة أخرى – وهذا ما لا نتمناه- جمرات القلق والتوتر الراقدة تحت رماد الصمت والترقب والانتظار…
- الحقوقي المعني، أساء للشغيلة التعليمية، من خلال التوصيف العنيف الذي اختاره في معركته غير المفهومة ضد الأساتذة المشاركين في الإحصاء دون غيرهم من الموظفين، وأساء ثانيا لشريحة واسعة من المغاربة البسطاء والبؤساء “العطاشة”، الذين يكدون ويجتهدون في سبيل الحصول على لقمة عيش في سياق اجتماعي صعب جدا، وكان عليه وهو الذي يرافع عن الحقوق والحريات، أن يدافع عن هذه الشريحة الاجتماعية المكافحة، بدل التقليل من شأنها، واستغلال وضعيتها الهشة، لممارسة لعبة القصف، في معركة كان بالإمكان تجاوزها، بالنظر إلى “حساسية قطاع التعليم”، واعتبارا لما نواجهه من تحديات كبرى أجدر بالمتابعة والمواكبة…
ونحن ندلي بهذه الملاحظات، ليس الهدف توجيه رسالة مباشرة إلى من وزع “صكوك العطش” على الأساتذة المشاركين في الإحصاء، أو التصدي لما صدر عنه من ادعاءات وأقاويل ذات أفق ضيق، ولا حتى تبرير مشاركة الأساتذة في استحقاق وطني يرتقي إلى مستوى “المهمة الوطنية” التي لا مكان فيها لخطاب العنتريات ورسائل الحسابات ما ظهر منها وما بطن، أو الانخراط في صلب جدل لا مبرر له، نراه مجرد “مضيعة للوقت” أو “قلة ما يدار”، وإذا كان من هدف، فلن يخرج عن دائرة استنكار وإدانة ما تتعرض له أسرة التعليم من حملات “التهكم” و”السخرية” و”الاستهزاء”، وهي الخارجة من معركة نضالية كانت “الكرامة” عنوانها البارز، وسبة “العطاشة” الموجهة للأساتذة المشاركين في الإحصاء دون غيرهم من الموظفين، ما هي إلا مرآة عاكسة لخطاب كرس عبر عقود من الزمن، صورة نمطية للمعلم، مقرونة بالبؤس والجشع والطمع والبخل…؛ بات معها هذا المعلم، مجرد “حيط قصير” يتطاول ويتجرأ عليه الجميع، تارة بالإهانة وأخرى بالتهكم وثالثة بالسخرية والاستهزاء، ورابعة بتحميله مسؤولية ما تعانيه المنظومة التربوية من مشكلات وأعطاب، وهذه الوضعية المأسوف عليها، تبقى دالة على واقع حال منظومة تعليمية، لا يمكن البتة، أن ترتقي، إلا بمعلمين أو مدرسين، يحظون بالاحترام والتقدير والتحفيز والكرامة والاعتبار؛
وحتى لا نروج لخطاب المظلومية والمؤامرة، فلابد من الاعتراف، أن نساء ورجال التعليم، لهم نصيب مما وصلت إليه مهنة التدريس من تواضع وتراجع، لما بات يصدر عن بعضهم، من ممارسات وتصرفات غير مسؤولة، برزت بقوة في يوميات الحراك التعليمي، من قبيل الأنانية والمصلحة والفئوية والاتهام والمقاطعة والتشهير والتخوين…، وممارسات وتصرفات من هذا القبيل، تشكل ليس فقط، إساءة للمهنة، بل وتمنح المتربصين المزيد من الفرص، للهجوم على الشغيلة التعليمية، كما حدث مع موزع “صكوك العطش”، وفي هذا الإطار وبدون لغة خشب، فمن عرض زميله أثناء الحراك إلى السب والتشهير أو واجهه بأسلوب المقاطعة أو وجه له تهمة التخوين، يتساوى حسب تقديرنا، مع من يهاجم الشغيلة التعليمية “من الخارج”، فكلاهما يساهمان كل بطريقته، في الإساءة للمهنة وتكريس تواضع منتسبيها، وعليه، لا يمكن تغيير الوضعية، إلا بتجاوز العادات القبيحة والارتقاء بمستوى السلوك والتصرف، بما يحقق الوحدة ويضمن الترافع الجاد والمسؤول عن المصالح المشتركة، بعيدا عن خطاب الفئوية والأنانية العمياء؛
ولا يمكن أن نختم المقال، دون التذكير أن الإحصاء العام للسكان والسكنى هو “مهمة وطنية” تنظم كل عشر سنوات، وانخراط الأساتذة فيها، يعكس جاهزيتهم واستعدادهم لخدمة مختلف قضايا الوطن، والوزارة الوصية على القطاع، مطالبة بدعم وحماية موظفيها، مما يطالهم من هجمات غير مبررة، شأنها في ذلك شأن “المندوبية السامية للتخطيط” باعتبارها الجهة المسؤولة عن تدبير هذا الاستحقاق الوطني ومن سينخرط فيه من مشاركين منهم نساء ورجال التعليم. وفي المجمل، نتمنى أن تختفي كلمة “عطاشة” من شاسة الردار المجتمعي، حتى لا تصبح الصفة “لصيقة” برجل تعليم “ماقدو فيل.. زادوه فيلة”، أما من رددها وروج لها وخلق حالة من الجدل بشـأنها، فنذكره أن الإحصاء ينظم كل عشر سنوات، وندعوه من الآن، إلى التفكير في أية “سبة” سيوجهها إلى الأساتذة الذين سيشاركون في إحصاء سنة 2034، إذا ما كتب للعمر بقيـة…