الألباب المغربية/ محمد خلاف
بين غربة الروح وغربة الجسد؛ يكابد مغاربة العالم خارج الحدود؛ غربة بمرارة الحنظل أو أشد؛ وصقيع وحشة موحشة لفراق هواء وتراب وسماء المغرب؛ وملامح الوجوه؛ وروائح الأمكنة؛ فالإنتماء إلى المغرب كما الإنتماء إلى الأم فلا فرق بينهما؛ إذ يحدث للحياة أن تهدي إليك الشيء الذي تحبه أكثر في المكان الذي تكرهه أكثر.
فلطالما مذهلة هذه الحياة بمنطقها غير المتوقع، أرواح المغاربة مسجونة في منتصف الحرية بحب أزلي للوطن؛ يرون الأمكنة متشابهة هناك؛ فكل الأشياء التي فقدوها، بالمغرب الذي غادروه والأشخاص الذين اقتلعوا منهم. غيابهم لا يعني اختفاءهم، إنهم يتحرّكون في أعصاب نهايات أطرافهم المبتورة، يعيشون فيهم، كما يعيش وطن.. كما تعيش امرأة.. كما يعيش صديق رحل.. ولا أحد غير الأحبة يراهم. وفي الغربة يسكن المغرب أولاده بحب جارف، فيزدادوا صقيع أطرافهم، وينفضحون بهم برداً؛ في نوستالجيا ميتة تنتصب أمامهم كلها معاني حياتهم الجميلة الغابرة، كأنَّها مرآة ضئيلة ينظرون فيها طويلاً فلا يروا سِوَى أوجُهِ السّنينَ الشاحبة وملامحِ الآمالِ والأحلامِ والأماني المتجعِّدة كملامِحِ الشيوخ؛ مع بداية بوادر العودة لزيارة الوطن والمدينة؛ حرقتنا لافحة إلى النائي والغريب من أبناء وطني؛ عبق طيفهم يلوح بحضورهم القريب في كل أركان المدن؛ شوقنا لهم شوق للذاكرة والفصول؛ بعد أن غابوا قدرا؛ واشتقنا دمعا لرؤية أحدث السيارات الفارهة تجوب شارعا وشوارعا بمدننا إشتقنا إلى أفخم ماركات الألبسة؛ والساعات؛ إشتقنا إلى صخب الأعراس في كل النواحي؛ واشتاق اقتصاد المدن وتجارتها لسخاء المهاجرين من أولاد المغرب على جميع الأصعدة؛ اشتقنا إلى صخبهم الجميل؛ اشتقنا إلى سماع كلمات إيطالية وإسبانية مشتتة هنا وهناك؛ لقاءنا القريب بهم سيكون كرائحة الأرض بعد المطر؛ بعدما تكالب الدمع والإنتظار عن أمهات انتظرت أكبادها شوقا أخرسا كعصفور حائر؛ شطره الشوق إلى ذاكرة؛ فالغربة ليست محطة.. إنها قاطرة تركبُها حتى الوصول الأخير.
قصاص الغربة يكمن في كونها تُنقص منك ما جئت تأخذ منها. بلد كلّما احتضنك إزداد الصقيع في داخلك، لأنها في كل ما تُعطيك تعيدك إلى حرمانك الأول. لذا تذهب نحو الغربة لتكتشف شيئاً… وإذ بك تنكشِف بإغترابك؛
فكل شيء بالمغرب يبتسم فرحا بقدومكم فأنتم لنا وللمغرب كضوء قمر؛ وسيل مطر؛ وفوح زهر؛ فمرحبا عند سقوط قطرات الندى على الورود وأزهارها.