الألباب المغربية/ نادية عسوي
وأنا أتابع ما يُكتب في وسائل التواصل وفي وسائل الإعلام، وما يخطه بعض المثقفين عن قطاع الصحة، وجدت أن أغلب الآراء تنصب على لوم المستشفى والعاملين فيه، وكأنهم وحدهم المسؤولون عن جعل الصحة حقًا للجميع. لكن عندما نعود إلى تعريف منظمة الصحة العالمية، نجد أنها ترى الصحة حالة من اكتمال السلامة بدنيًا ونفسيًا واجتماعيًا، لا مجرد غياب المرض. ومن هنا يتضح أن المستشفى ليس سوى محطة أخيرة في مسار طويل يبدأ قبل ذلك بكثير.
الصحة تبدأ من الأسرة. في البيت يتعلم الطفل أولى القيم الصحية: النظافة، غسل اليدين، اختيار غذاء سليم. ثم يأتي الزواج(حتى لا أقول شيئ اخر يتنافى مع قيم المجتمع المغربي) كعامل مهم في التوازن النفسي والاجتماعي، فالإنسان الغير متزوج أو الغير سعيد في حياته الزوجية لا يمكن أن يُعتبر في صحة كاملة حتى وإن بدا جسده قويًا.
بعدها يأتي دور المدرسة، التي ينبغي أن تغرس في التلميذ ثقافة الوقاية، وتجعله يدرك أن الغذاء ليس مجرد شبع، وأن الرياضة والنظافة جزء من الحياة اليومية، وأن الصحة الإنجابية وعي يحميه ويحمي أسرته مستقبلًا. ولا يمكن أن نغفل دور التغذية السليمة في كل مراحل العمر، فهي أساس الوقاية وهي التي تحدد قوة الجسد وقدرته على مواجهة الأمراض.
ثم هناك الطريق والماء والبنية التحتية. في قرية نائية بلا طرق ولا ماء صالح للشرب، كيف يمكن أن نتحدث عن صحة؟ كيف تصل امرأة حامل إلى المستشفى في وقتها إذا لم تجد سبيلًا آمنًا؟ التنمية المجالية ليست ترفًا، بل شرط أساسي لتحقيق الحق في الصحة.
ويتسع النقاش إلى المجتمع. المواطنة هنا تظهر في التفاصيل: احترام المواعيد، الوقوف في الطابور دون فوضى، المحافظة على الأجهزة والنظافة. المستشفى ليس ملكًا لوزارة، بل فضاء مشترك يجب أن نحميه جميعًا.
ثم يأتي دور العمل. فالشخص الذي يعيش بلا شغل لا يخسر فقط دخله، بل يفقد توازنه النفسي والاجتماعي، وتظهر فيه كل أمراض القلق والإحباط. والشغل الكريم دواء للكرامة قبل أن يكون مصدر رزق، وهو ما يمنح الإنسان استقرارًا نفسيًا يجعله أقل هشاشة أمام ضغوط الحياة. وهنا يتكامل دور التأمين الصحي، لأنه الضامن الذي يحمي العامل من أن يتحول المرض إلى عبء مادي يهدد حياته وأسرته. عمل كريم وتأمين صحي فعّال يشكلان معًا ركيزة أساسية لأي إصلاح حقيقي في الصحة.
ويضاف إلى ذلك السكن اللائق، الذي لا يقل أهمية عن الطريق والماء. فأسرة تعيش في بيت ضيق أو رطب أو مهدد بالانهيار، أو محرومة من شروط التهوية والراحة، هي أسرة مهددة في صحتها. السكن ليس فقط جدرانًا وسقفًا، بل فضاء للكرامة والطمأنينة، ومن دونه تتولد أمراض صامتة: التوتر، القلق، وأحيانًا العنف.
وعند هذه المرحلة نصل إلى المستشفى. وهنا يمكن أن نتساءل: هل تكفي لجان التفتيش؟ هل تكفي مراقبة الساعات والتوقيع؟ هل تكفي الأجهزة الحديثة وحدها؟ هذه عناصر مهمة، لكنها تبقى غير كافية إن لم تسبقها حياة متوازنة في البيت، وزواج صحي، وتعليم واعٍ، وتغذية سليمة، وبنية تحتية، ومواطنة مسؤولة، وسكن لائق وشغل كريم يؤمّن الاستقرار، وتأمين صحي يحمي من السقوط عند أول وعكة.
الصحة إذن مسؤولية مشتركة. المستشفى مهم، لكنه ليس البداية ولا النهاية. الإصلاح الحقيقي يبدأ من الإنسان ويعود إليه، ومن دون هذه النظرة الشمولية سنظل نكرر نفس اللوم، وننسى أن الطريق إلى الصحة أطول بكثير من باب مستشفى.