الألباب المغربية/ نادية عسوي
جاءني هذا الصباح تفكير عميق في موضوع التنمية البشرية عقب مكالمة من قريب يدرس في بريطانيا. كان صوته مشرقًا وهو يحكي لي بشغف عن جامعته العمومية هناك: عن المعاملة الراقية، عن التسهيلات الإدارية، عن المختبرات المجهزة والمفتوحة أمام الطلبة، عن يد المساعدة الممتدة من كل موظف، عن الأستاذ الجامعي الذي يرى في الطالب مشروع نجاح لا مجرد رقم في لائحة، عن السكن الجامعي المنظم، وحتى عن لباس الطلبة الذي يعكس انتماءهم وفخرهم بمؤسستهم. أحسست من خلال حديثه أن الجامعة هناك فضاء حيّ، مصنع للمعرفة ومكان للحياة، لا جدران باردة ولا مكاتب مغلقة.
عندها وجدت نفسي أعود بذاكرتي إلى واقعنا.. بدأت أتأمل حالنا وحال جامعاتنا، وتذكرت تجربتي باقتضاب: كم من مرة اصطدمت فيها الإجراءات بالتعقيدات، وكم من مرة تحولت الرغبة الصافية في التعلم إلى رحلة طويلة من الانتظار بين المكاتب وطلبات تصحيح امضاء لمتابعة الدراسة في شعبة معينة، وكأن المعرفة باب موصد يحتاج إلى وساطات ليفتح. لم يُغلق الباب أمامي، لكن الطريق كان متعرجًا وموهِنًا. فتساءلت: إذا كنت أنا قد شعرت بالإنهاك، فكيف بشاب في مطلع عمره، يريد أن يبدأ رحلته مع العلم، فيجد نفسه منذ البداية في مواجهة جدار من البيروقراطية؟
من هنا يتضح لي أن التنمية البشرية ليست في مظاهر تُرى بالعين ولا في مشاريع تُلتقط لها الصور. ليست في قطار فائق السرعة ولا في ملعب جديد ولا في ناطحة سحاب، بل في خلق بيئة تعليمية وصحية وثقافية تجعل الإنسان مركز كل شيء. التنمية هي استثمار صبور، يحتاج إلى أجيال كي تظهر ثماره، لكنه وحده الذي يضمن الاستمرارية. هو الذي يجعل المواطن واعيًا، يحترم المرافق العامة، يجلس على كرسي في حديقة ولا يخطر بباله أن يحطمه، لأنه تعلم منذ الصغر أن ما هو عام هو له أيضًا.
أما أن نبني مدنًا إسمنتية فارغة من الروح ونُرحل سكانها إلى ضواحٍ بعيدة حيث تنعدم شروط التنافس على العلم والتحضر، فذلك استثمار أجوف. التنمية الحقيقية هي أن نصنع بيئة عادلة للجميع: مدرسة في كل حي، جامعة تحتضن طموحات شبابها، تكوين يواكب العصر، وتربية تغرس القيم، ووطنية صادقة تجعل من كل فرد شريكًا في المستقبل.
وأنا أحتسي قهوتي هذا الصباح، أدركت أن ما يميز الأمم المتقدمة ليس بريق مدنها فقط، بل قدرتها على أن تجعل كل إنسان يشعر بأنه جزء من مشروعها، وأن نجاحه ليس فرديًا فحسب، بل لبنة في بناء الوطن كله. التنمية البشرية هي أن نبني الإنسان ليبني هو كل شيء من بعد.