الألباب المغربية/محمد خلاف
يحدث أحياناً أن تصاب بالحزن فتشعر بتفاهة الأحداث حولك، وتزهد بكل طقوس الحياة المحيطة بك، وتفقد الأشياء قيمتها وأهميتها لديك ويخيل إليك أن الحياة توقفت عن النبض، وتتساوى لديك الأمكنة والأوقات وتبقى وحيداً… وتبقى بعيداً , لا شيء معك سوى إحساسك المقيت بأفول زمن جميل، وتفشل كل محاولاتهم لانتزاعك من وحدتك، وقد تبقى في دائرة الاكتئاب فترة طويلة، وقد تشرق شمس الأمل فجأة عند الحديث عن ذكريات الزمن الذهبي مع صديق من الزمن الجميل، فتشرق معها قابليتك للحياة من جديد! …. فبما حمله الزمن الجميل خلف أبوابنا العتيقة؛ وأعشاشنا القديمة من ذكريات؛ مطارحنا الدافئة؛ وشوارعنا الصاخبة؛ ولعبنا المخملي حتى النوم؛ وأيادي الجدات الحانيات؛ وحكاياتهن الماتعات؛ وعلاقات الجوار الطيبات؛ زمن البركة وراحة البال؛ تفجرت قطوف ذاكرة مسكونة بحب أشياء جميلة عشناها مع أشخاص نكن لهم في قلوبنا كل ما هو رائع وشفيف؛ قضينا أوقاتا حلوة؛ صافية؛ دون كدر بأحلام وردية عريضة؛ ترسخت في كياننا المادي والروحي؛ وتشكل معها جزء من بنيتنا الجسدية والفكرية والعاطفية؛ في الماضي غير البعيد كان كل شيء جميلا؛ كان الحنان صافيا والفرح أبيضا؛ والتعب سعيدا؛ والسعادة نقية؛ كان عيد الأضحى فرحة ولحمة بطعم الشهد؛ يشعر بها الكبار والصغار؛ إطلالته خفقات بشر ودموع فرح؛ واهتزاز سرور؛ تبدأ تباشيره بشراء الأضحية، وبترتيبات الأمهات في إعداد كعك وحلويات متميزة؛ وتعبق الأجواء برائحة الحناء؛ والأشجار العطرية والبخور ليتضوع المنزل تضوعا لا مثيل له؛ وشراء الملابس التي نضعها جوار الوسادة عند النوم ليلة العيد كي تكون قريبة منا لنلبسها فور انبلاج الفجر؛ واستذكار الموتى والوفاء لهم؛ وصلاة العيد بالمصلى؛ وزيارة الأقارب؛ ونحر الأضحية تقربا إلى الخالق والتجمع مع الأهل بلا حدود ولا حواحز؛ بعفوية وعدم المبالغة في الإتيكيت والتعاملات؛ وانتظارنا بتلطف لنقود العيد التي تزيدنا فرحا؛ بملابسنا الجديدة؛ وجهتنا شراء مفرقعات لنذرتها؛ أو حلوة أو مصاصة ننتظرها على مدار العام؛ نسابق ركضنا الجميل إلى بيوت الجيران والأهل وساحات المرح والألعاب؛ في مظاهر مؤنسة؛ ومشاهد مبهجة؛ كانت صباحيات العيد؛ زاخرة بعذوبة الأيام؛ وبياض القلوب؛ القريبة إلى فراديس الروح؛ حيث كانت كل المشاعر حقيقية؛ وكان النسيج الاجتماعي متماسكا؛ مثقلا بقيم التواصل والتقارب الحميمي بين السكان دون جفاء أو قطيعة؛ أو خلافات؛ في مطاردتنا المستمرة للبالونات الملونة في سماء الحارة؛ كان العيد دفء شعور ونبضة حب؛ وأنشودة فرح؛ يشارك الجميع في ليلته الحالمة؛ وصباحه المترقرق بالأنس والمسرات؛ أما الآن مع تطور العلم أصبح التواصل إلكترونيا؛ عبر رسائل قصيرة؛ دون رشات عطر ولا جيوب صغيرة تنتظر نقودا؛ مما أدى زوال العديد من ملامح العيد دون علمنا؛ وأصبح مجرد ورقة في التقويم؛ عيد اليوم كله مجاملات وروتين وشبه نفاق اجتماعي؛ تبادل الزيارات يوم العيد أصبحت كحمل ثقيل يجب رميه بأسرع وقت؛ وفي نطاق ضيق جدا؛ وبتحديد موعد الزيارة عبر الهاتف؛ ومعرفة وقت الاتصال أولا؛ وربما لن يبقى منها شيئا للأجيال القادمة؛ لأن أيامهم كلها أعياد بمقاييسنا القديمة؛ وبذلك قد نطوي حكايات الماضي وتقاليد الأعياد التي طالما انتظرناها في طفولتنا؛ كزهرة عطرة تقودنا إلى أبواب الفرح؛ في زمن قادم لم نكن نعلم خسران العديد من لحظات الزمن الجميل أيام العيد؛ أشياء لازمتنا سنوات عديدة؛ ظنناها ماكثة؛ طارت كحمام سحرة وأوراقهم النقدية؛ في حنين مستمر لزمن نقي؛ طاهر؛ دون أعباء ولا هموم؛ تستدعيه الذاكرة بحسرة وشوق بصور متعددة تدغدغ مشاعرنا؛ تضحكنا حينا؛ وتعصر قلوبنا حينا آخر؛ وندخل في حالة تعلو على الواقع؛ ونبدأ في وصف جمال تلك الأيام قائلين أين أيام الزمن الجميل؛ بصخبها وموسيقاها الملفتة؛ أو راحوا الطيبين؛ العيد باق؛ والعيد مستمر؛ والأطفال هم من تبدلوا؛ والعيد كل سنة يهرم أكثر؛ وقد تزول بسمة العيد بوردها المنتشر.. وزهرها المزدهر، الذي كان يلقي بأنفاس تراقص كلمات الشعر من الفرح بكل إحساس. نحن عندما نصادف شيئا جميلا؛ مفرطا في الجمال من أيام الزمن الجميل؛ نرغب في البكاء بحرقة وأنين على ثروات ذكريات ومشاريع حياة فقدت غصبا؛ وقد لخصت أحلام مستغانمي ذلك في قولتها. (الذكريات عابر سبيل، لا يمكن استبقاؤها مهما أغريناها بالإقامة بيننا. هي تمضي مثلما جاءت. لا ذكريات تمكث. لا ذكريات تتحوّل حين تزورنا إلى حياة، من هنا سرّ احتفائنا بها، وألمنا حين تغادرنا إنّها ما نجا من حياة سابقة).