الألباب المغربية/ يونس المنصوري
إنّ اللغةَ العربيةَ ليست كسائر اللغات، بل هي بناءٌ شامخ، قائمٌ على أسس متينة، وجذور ضاربة في أعماق الزمن، وما الدارجة المغربية إلا فرعٌ من أصلٍ، وإن ظن البعض أنها تباعدت عن أمها، فإنما هو تغيّر في المظهر لا في الجوهر، وتحول في النطق لا في النسق.
في حقيقة الجذر وثباته
إنّ الكلمةَ في العربيةِ إنما هي منبتةٌ من جَذْرٍ، كالشجرة تضرب بجذورها في أعماق الأرض، فتثمر ألفاظًا متشابهة في أصلها، متفرّقة في دلالاتها، تجمعها وحدة المعنى، وتفرقها لطائف الاستخدام. فمثال ذلك الجذر (سجد)، فما وردت منه كلمة إلا وحملت في طيّاتها معنى الخضوع والانقياد، سواء قيل “سجدوا” أم “مسجد” أم “سجود”، فلا تحيد دلالته، ولا تنفك عن أصله.
ولولا هذا الجذر، لضاعت الكلمات وتفرّقت الألفاظ، كما ضاعت ألفاظ اللاتينية، إذ تقطّعت أواصرها، فانقسمت إلى لغات شتّى، لا يعرف بعضها بعضًا، في حين بقيت العربية متّصلةً بماضيها، لا يُستغرب لفظها، ولا يُهجر رسمها.
القرآن الكريم وأمانة الجذور
ولو تدبّرتَ الذكر الحكيم، لرأيتَ أن العربية قد بلغت فيه الغاية في ثبات الألفاظ وتماسك الجذور، فانظر كيف تجري المعاني مجرى النهر الصافي، لا يكدّره تبدّل الأزمنة، ولا تغيّره اختلاف الألسنة.
ففي الجذر (كفر)، نجد معنى التغطية في قوله تعالى: “كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ” (الحديد: 20)، حيث الكافر هنا ليس بمعنى الجاحد بالله، وإنما هو الفلاح الذي يغطي الحب في الأرض، فبقي المعنى محفوظًا، لم تَحُده التأويلات، ولم تبدّله العصور.
وفي الجذر (نبأ)، نجد أن كل ما اشتُق منه يظل دالًا على الإخبار، فلا يكون النبأ إلا عظيمًا، كما قال سبحانه: “عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ” (النبأ: 2)، فيبقى الجذر متينًا لا تزيغ به الأفهام.
الدارجة المغربية: بنت العربية الجذرية
إنّ من يظنّ أن الدارجة المغربية قد انسلخت عن العربية، فهو كمن يرى ظل الشجرة فيحسبه كيانًا منفصلًا عنها، ولو عاد إلى جذعها لوجدها واحدة الأصل، ممتدة الفروع. فالدارجة ليست تحريفًا ولا خروجًا، بل هي صورة أخرى من العربية، محافظة على أصولها الجذرية، وإن تباينت في النطق والتراكيب.
حين ننظر في بنية الدارجة نجد أنها تتعامل مع الكلمات العربية بطريقة تبسيطية لكنها لا تتخلى عن الجذر، بل تكتفي أحيانًا بإسقاط الحركات الإعرابية واختصار بعض المقاطع الصوتية، لكنها تظل وفية لمنطق التوليد والتصريف الذي يميز العربية الفصحى، وهذا ما جعلها رغم كل التحولات التي عرفتها عبر القرون لا تزال متصلة بأصلها.
حتى الكلمات الدخيلة من الإسبانية أو الفرنسية لم تستطع أن تفرض قوانينها داخل الدارجة، بل خضعت لعملية تعريب تجعلها تتناسب مع البنية التصريفية للعربية، فكما أن العربية الفصحى امتصّت مفردات من الفارسية والرومية وأخضعتها لقوانينها، فعلت الدارجة الشيء نفسه، مما يدل على حيويتها وارتباطها العميق بأصلها.
عربيةٌ لا يبدّلها الدهر
ولو نظرتَ إلى اللغات التي تكلّم بها الناس في الأزمنة الغابرة، لرأيت كيف تبدّلت ألفاظها، وتحلّلت تراكيبها، حتى صار المتأخر لا يفهم المتقدّم، غير أن العربية لم تهرم، ولم تضعف، ولم يخطّ عليها الدهر سطر الفناء.
ذلك أنها لم تكن لغةً قائمة على الحروف المتناثرة، بل كانت كالبنيان المرصوص، يعضد بعضه بعضًا، فإذا تغيّر شيء من ظاهرها، بقي أصلها محفوظًا، وجذورها ممتدّة، فلا تزال العرب تفهم ألفاظ أجدادها، وتُدرك ما نطق به نبيّها، وما خُطَّ في مصاحفها، وكأنّ أربعة عشر قرنًا لم تمضِ بها، وكأنها حديثة عهدٍ بالنزول.
فالدارجة المغربية إذن، ليست لغةً مستقلة، بل هي امتداد للعربية الجذرية، تعيش في وجدان المغاربة بصفائها، وتتحرك في ألسنتهم بانسيابها، فكما حافظت العربية الفصحى على أصولها رغم عواصف التاريخ، كذلك فعلت الدارجة، فهي ليست دخيلة، وليست غريبة، وإنما هي ابنةٌ بارةٌ بأمها، وإنْ بدت في لباسٍ مختلف. والله أعلم، وهو المستعان، عليه التكلان، وإليه المرجع والمآب.
 
			 
			 
                                 
                              
		