الألباب المغربية/ ذ. محمد خلاف
نهاية سنوات التسعينيات، وبداية الألفية الثانية، وعند التعيين الأول بمدينة تيزنيت كانت لي قصص كثيرة مع قلة الحافلات المتجهة لتلك المنطقة خصوصا من الفقيه بن صالح، بإستثناء بعض الحافلات القادمة من خريبكة إلى انزكان وهما فقط شيها تور المهترئة، ونقل شاهير في عز ظهور الحافلات الجديدة، وما رافقها من ضجة وتجاوزات وابتزازت الكورتية للظفر بمقعد بها، وكانت لي رفقة معلمي المنطقة ابي الجعد، وادي زم، خريبكة… حكايات كثيرة مع محطة انزكان الضخمة المفترسة، باعتبارها الموزع لمدن الجهة انذاك، حيث بمجرد ما ندخلها حتى نسمع “مراكش …كازا… الرباط… الجديدة … بني ملال ..العيون … بهذه العبارات الموجزة لخريطة البلاد* ،*يقابلك مجموعة من الكورتية، رمت بهم العطالة إلى المحطة في هيئات مختلفة شغلهم الشاغل تلقف من وطأت قدماه مدخل المحطة، بقبعات رياضية مقلوبة، وجلابيب شمالية قصيرة، تتغير نبرات صوتهم بحسب جنس وسن ومظهر المسافر ،ومنهم من يعض على سيجارة أو لفافة حشيش وبيده رزمة من تذاكر السفر لحافلات عدة ، محاولا أن ينتزع منك وجهة سفرك، ومنهم من يباغتك بتذكرة سفر مستعجلا قبل أن يظفر بك غيره، في طرق تدليسية مقيتة ككون الحافلة مكيفة، وعلى أهبة المغادرة، ويصيح “بلاصا.. بلاصا ..بلاصا..” *بينما العكس حيث يصل الانتظار إلى ساعات في بيع وشراء في عذاباتنا على وقع كلاكسونات الحافلات المثيرة للفزع، ورغم أن كلمة كورتي تعني بالفرنسية وسيط معتمد ينظم سير العمل ،فهناك بانزكان كلمة كورتي تعني وسيط غير معتمد ينظم عملية الابتزاز والسرقة….. تلك هي المحطة الطرقية انزكان التي تزداد فيها وتيرة هذه الهستيريا أيام المناسبات من أعياد وعطل، او عند مشاهدة دهشة غريب أو غر،حيث يجد المسافر أمامه أشخاصا لا تربطهم بالمحطة الطرقية إلا كنانيش صغيرة قد تحمل اسم حافلة من الحافلات وقد يحمل عبارة ” نقل جميع الجهات ” بدون مرجع أو عنوان يعود إليه المسافر عند الضرورة .تلك هي الفوضى التي عشناها بمحطة انزكان المخيفة ،بمشاكلها التي تزداد حجما عندما يكون المسافر مصحوبا بأفراد أسرته، حيث يتحاشى زج أنفه مع هذه العناصر ويحاول تجنب النقاش مع هؤلاء الوسطاء الذين لا يستحيون من تبادل الألفاظ النابية مع نظرائهم على مسمع المسافرين رفقة عائلاتهم، والغمز واللمز بألفاظ إيحائية للفحش والكلام الساقط، كما لا تسلم النساء والفتيات من تلقي ألفاظ تحرشية* فاحشة، وعندما تدخل الحافلة ذات المحرك الصاخب حتى ترى كتابات حمراء من قبيل “حفاظا على سلامتك لا تتكلم مع السائق، ممنوع التدخين، نافذة الإغاثة، وأطنان المسكة ملتصقة بكراسي هرمة مهدمة الأطراف، تحدث أزيزا غريباان تربعت عليها إحدى الجثث العامرة والكروش المنتفخة، والأزبال وقنينات الماء الفارغة وأكياس بلاستيكية نتنة وأرقام هاتفية مكتوبة على بعض الكراسي، حالتها كأنها نجت للتو من حرب ضارية. ولدى بلوغك قلب الحافلة تجد صفين من المقاعد، وقمطر على طول جانبي الحافلة بأعلى رؤوس المسافرين خاص بالأمتعة الخفيفة، وقبل الانطلاق يتعاقب على ممر الحافلة أشخاص يمتهنون حرفا متعددة من بائعي الأعشاب ومتسولين وعازفين وبائعي الحلويات والفواكه ومشعودين، وقد تمر أمامك ظواهر المجتمع بكاملها واحدة تلو الأخرى في ظرف وجيز. من كثرة سفرنا ألفنا بعض الوجوه رغم أن حيلهم مكشوفة يعيدون الكرة دون حياء، ومما ترسخ في ذهني رسوخ الأصابع في راحة اليد بائع الحلويات الذي قال بالحرف عندما علم ان الحافلة متجهة للفقيه بن صالح وخريبكة “هادو صحاب الفقيه بن صالح خاصهم عا الفيزات والكونطرادات اش بغاو بهاد الشي ونزل ساخرا يسب ويلعن دون حشمة”….
تنطلق الحافلة ومساعد السائق ما زال منهمكا في ترتيب الأمتعة ، وبعد دقائق يلتصق الكريسون بالباب الخلفي للحافلة والبرد يجره بقوة لكن تجربته الطويلة في الميدان تمكنه من ولوج الحافلة بكل إحكام، ويغلق الباب خلفه ليستأنف عملا آخر “شكون ماعندو ورقة “يقبض النقود من هذا، ويتفاوض مع هذا في الثمن ،ويتعارك مع الآخر بعد رفضه أداء واجب الأمتعة، ويجيب السائق الذي يراقبه ويوجهه من حين إلى آخر بالمرآة، وقد يفاجئه أحد المسافرين أو المسافرات طالبا إناء أو كيسا ليفرغ فيه القيئ بعد أن تمايلت به الحافلة واهتز ما في بطنه من أسكيف وموز وبيض مسلوق..، ويكاد المسافر أن يختنق وسط أدخنة أنواع السجائر وضجيج الأطفال الصغار الذين لم يتعودوا بعد على هذا المشهد. وقد تختفي هذه المشاهد ان حصلت على تذكرة حافلة الشهير..، حيث أصبحنا نعرف معنى “الميزيرية”. أي وقت شغور الحافلات فنختار الحافلة بثمن رخيص عكس أيام وموسم الذروة، كالمناسبات والأعياد والعطل، وحديث آخر عن الشواء وطواجن وكفتة منطقة أسراتو وامسكرود و فم الجرانة، وبردها القارس في كل فصول السنة، وواد العبيد “امداحن” حيث تسمع في الرابعة صباحا “ارا صحاب الكفتة، ارا صحاب الطواجن…..” كل ذلك في دكاكين واطئة ومقاهي ضيقة … عشنا هموما كثيرة مع بعض الحافلات التي كانت تعول على هذه المناسبات لمعالجة العجز الذي يحصل لديها خلال السنة، بتسعيرات خيالية ترهق كاهل كل الركاب، وطالما نادينا بتفعيل التسعيرة القانونية للأسفار للقطع مع أساليب الماضي والمساهمة في خلق راحة المسافر وتشجيع هذا القطاع وإعادة الاعتبار للحافلة المغربية….
وفي انتظار انطلاق الحافلة خبرنا المحيط الخارجي للمحطة الطرقية انزكان حيث بجانبها أسطول من الطاكسيات البيضاء والزرقاء، والخضراء المتجهة لمدينة تيزنيت وكلميم،كما تلتقط عيناك أفرادا بشرية من المتسكعين والمشردين بجانب سور المحطة يتخذونه مأوى لهم، في مشاهد اختلاط الحابل بالنابل في بعض الصور المرعبة، أما من ظل ينتظر حافلة ما فما عليه إلا الوقوف على القدمين أو افتراش الأرض الملوثة بزيوت المحركات، لأن المحطة لا تتوفر على سقيفة ولا على كراسي للمسنين والعجزة والنساء، والحوامل،، وجوه المسافرين صبغها التعب بلونه الباهت، كلما تفحصتها من بعيد تأخذني قسماتها المُجهدة إلى عالم آخر ينسيني أن أسأل، لماذا كل ذلك؟ وكم جميلة قولة أحلام مستغانمي عن السفر في الأسود يليق بك *كلّ تذكرة سفر هي ورقة يانصيب ، تشتريها ولا تدري ماذا باعك القدر . رقم الرحلة.. رقم البوّابة.. رقم مقعدك.. تاريخ سفرك.. ما هي إلّا أرقامٌ تلعب فيها المصادفة بأقدارك، يمكن لرحلة لم تحسب لها حسابًا أن تُغيّر حياتك أو تودي بها، أن تفتح لك الأبواب أو توصدها، أن تعود منها غانمًا أو مفلسًا، عاشقًا أو مُفارقًا*
ورغم أن المحطة الطرقية انزكان تعتبر وجها للمدينة، فإن الكل مطالب أن يرتقي بوعيه إلى مستوى تطلعات الأجيال الصاعدة التي تطمح إلى القطع مع السلوكات السلبية التي تجعل من السفر قطعة من نار.