الألباب المغربية – محمد خلاف
هناك أماكن كلما خطونا مكانها تفجرت في عقولنا ألغاما من الذكريات؛ وتفتحت داخل أذهاننا سلسلة من الصور والمشاهد التي شهدتها تلك الأماكن تلوح بيدين من شوق لكل الذين عبروا؛ كغيم الطرقات؛ كرماد في منفضة العمر؛ فالأمكنة في تغيرات مطردة ؛في نمو متلاحق؛ تفقد لونها ورائحتها؛ تضيق مساحتها؛ فتضيق معها أنفسنا؛ فإما أن تنحسر؛ أو تأخذ شكلا غير أليف؛ أو تنقرض تماما…
ومن الأمكنة الدارسة ب”لا ربعا” مرحاض باب الأحد الشهير عند مدخل باب الأحد؛ بناية جميلة الشكل والخصوصيات؛ تعود للفترة الاستعمارية؛ تشبه في معمارها قبعة ليوطي او شارل دوغول؛ بطابق علوي؛ كان أول الأمر عبارة عن استراحة يجلس فيها علية القوم ذاك الزمن وبعض من رجال السلطة قبل أن تتحول اواخر الستينات إلى مكتب للهندسة الطبوغرافية للسيد الزهاوي الموظف المتقاعد من قباضة الفقيه بن صالح؛ يشتغل فيها فردا واحدا يطل على المارة؛ أسفل البناية كانت هناك دورية للمياه (مراحيض)، كانت ملاذا للحصادين في فصل الصيف، يفترشون جوانبها للبرودة المنبعثة من حيطانها الخارجية؛ وكذا ساقية المياه التي تمر بجانبها؛ في انتظار فجر جديد للذهاب إلى الحقول المجاورة؛ كان يشرف على المرحاض رجل طاعن في السن إذا قدر لك ان دخلت في غفلة منه؛ قد يغلق عليك الأبواب بمفاتيح من نوع خاص ويقصد بيته هناك في دوار الشمندر؛ كما حدث ذات زمن لأحد الأشخاص….
التاريخ يذكر كيف رابطت القوات المساعدة في درجات البناية مدججة بالهروات؛ تحرس مقر الاتحاد الاشتراكي؛ بعد صدور الإغلاق في حقه؛ وتلحيم الباب؛ تأسيس هذه البناية تزامن مع تأسيس الحي الإداري؛ والكنيسة؛ وناديي مكتب الاستثمار الفلاحي بمسبحه الأنيق؛ بحيث أقبرت هذه المعلمة أواخر السبعينات بتهيئ شارع الحسن الثاني؛ حيث أقبرت العديد من أشجار الكاليبتوس المعمرة؛ وأصبح بمدارة شهيرة بحنك واحد؛ وكان الهدف من خلق المراحيض بذلك المكان؛ قربه من المحطة العشوائية للمسافرين (مقهى الموعد حاليا)؛ ومحل لاستاك والستيام؛….
كان شارع الحسن الثاني من باب الأحد إلى مكتب البريد المركزي مكانا باريسيا بامتياز؛ لوجود العديد من الحانات؛ وأمكنة توزيع الخمور؛ مقهى الأصدقاء(مقهى باريس حاليا)؛ كان بجوارها محل اللحوس لبيع الخمور وأنواع المشروبات الغازية؛ والجبن الأوروبي؛ والأدوات المنزلية؛ وكان بجانبه محل بيع الخمور لعلي الشلح (حفيظي علي)؛ سينما “كاليبسو”؛ مقهى آخر لتوزيع الخمور كانت تشرف عليه نساء جميلات كالقمر؛ (مقهى بسمة حاليا)؛ ثم مخبزة مكيال (مقهى فرنسا)؛ بخبزها الرائع؛ ثم فندق وحانة باريس؛ ثم حدائق بهندسة وأبواب أوروبية الشكل؛ وفي الجانب الآخر؛ خمارة أوبار يشرف عليها المسمى جناح؛ نالت معاول الفساد من كل شيء جميل من معالم “لاربعا”؛ التي سطت على أنفسنا؛ بين هذا وذاك نتذكر الأماكن القديمة بالمدينة؛ نطوف حولها في شوق ولهفة ورغبة؛ في العودة؛….
فهكذا هي الحياة لا المناصب عوضتنا على كل ما فقدناه؛ ولا المال كشف لنا حقيقة احتياجنا إلى السعادة المفقودة؛ فعبق الذكريات يقشعر له البدن؛ والوصف والنعوت والأحوال تتنازع وتقف مذهولة أمامه؛ فهل سيفكر مسؤول ذات يوم في خلق مراحيض عمومية بالمدينة؟ مع العلم أن المغرب يحتفل كباقي دول العالم باليوم العالمي للمرحاض في 19نونبر من كل سنة؛ أم أن تفعيل قانون زجر قضاء الحاجة في الشارع سيفعل بحزم؛ ونحن نعلم أن نصف سكان المغرب يقضون حاجاتهم في الخلاء.