الألباب المغربية/ علال بنور
كانت قبائل الشاوية بغناها الفلاحي الذي ارتبط بمساحات سهلية غنية التربة، تنتج العديد من أنواع الفلاحة خاصة الحبوب والأصواف التي كانت تسوقها بأسواق الدار البيضاء منذ القرن التاسع عشر، كان يعزز ويقوي مكانة الشاوية موقعها الاستراتيجي المنفتح على باقي السهول والبحر، والواقع أن الساحل الأطلسي منح للشاوية ومدينة الدار البيضاء بمينائها مركزا أساسيا في أواخر القرن 19م، الشيء الذي سمح لها أن تلعب دورا مهما في العلاقات المغربية الأوروبية، ومن هذا المركز يسهل الانتقال بين جهات المغرب لجلب المنتوجات الفلاحية .
كانت الدار البيضاء ملتقى الطرق التجارية بل محطة التقاء التجار، الشيء الذي زاد من إغراء التجار الأوروبيين للوفود على تجارة المدينة. يبدو أن أنفا التي ستسمى بالدار البيضاء مع السلطان محمد بن عبد الله (1757 – 1790)، ستجر عليها الأطماع الأوروبية في وقت مبكر منذ القرن 15 م مع البرتغال الذين سيخربونها سنة 1468 م، إلى أن جاء إلى سدة الحكم السلطان العلوي محمد بن عبد الله، الذي عرف بباني المدن والتاجر السلطاني في أواخر القرن 18 م، الذي سيعيد بناء الدار البيضاء كما سيعيد للمرسى مكانتها التجارية، الشيء الذي سيجعل إقبال التجار والوكلاء الأوروبيين للاستقرار بالمدينة.
في عهد السلطان سليمان سيتوقف النشاط التجاري بالمرسى، بسبب الصراعات بين رجالات المخزن من جهة ومن جهة أخرى مع قبائل الشاوية، إلى أن جاء السلطان عبد الرحمان بن هشام (1822 – 1859) الذي أعاد من جديد الحياة التجارية بالمرسى، فتطورت العلاقات المغربية الأوروبية من جديد.
ازداد الطلب الأوربي على أصواف المغرب، خاصة أن الظرفية ارتبطت بالثورة الصناعية وظهور آلات الغزل بأوروبا، تلك من العوامل التي دفعت بالرأسمالية الأوروبية إلى الاهتمام بالمغرب باعتباره سوقا للمواد الأولية. فبدأت المؤسسات التجارية تستقر بالدار البيضاء بفضل مينائها، كان للشركات التجارية الفرنسية دور السبق في الاستقرار بها.
استقرت شركات تجارية متخصصة في تسويق الأصواف، منها شركة Seillière و Compagnie Française Lodève الفرنسيتان، فكانت أصواف الشاوية تتجه نحو مدينة مرسيليا ولندن.
ولحماية وتعزيز استقرار التجار الأجانب، استقر أول نائب قنصل انجليزي بالمدينة 1857 لتعزيز معاهدة الصداقة والتجارة بين بريطانيا والمغرب 1856.
أما اتفاقية 1863 بين المغرب وفرنسا حول الحماية الشخصية، فإنها مثلت البداية الأولى للتوغل الفرنسي في المغرب، أعطت للفرنسيين حق الحماية الشخصية للمغاربة المتعاملين مع تجارهم، مما دفع بالأوروبيين إلى تدويل قضية الحماية الشخصية، خوفا من انفراد فرنسا بالمغرب،على أساس أن الحماية الشخصية تؤدي حتما إلى الاستعمار. فتوسعت سلطة المحميين من الوكلاء إلى السماسرة في الأسواق ومنافسة التجار المغاربة.
استمرت ظاهرة الحماية الشخصية إلى فرض الحماية الفرنسية 1912، فأصبحت قبائل بكاملها تحمل بطاقة الحماية الشخصية التي اتخذت ثلاث جنسيات حمائية، فرنسية وألمانية وانجليزية.
كان ميناء الدار البيضاء في أواخر القرن 19 م، يصدر السلع الفلاحية نحو أوروبا، على رأسها الحبوب والأصواف والقطاني والشمع الطبيعي، وفي ذات الوقت كان يستورد الصابون والسكر والكتان والتوابل والشاي والأصباغ والورق (الكاغط).
لذلك أصبحت الدار البيضاء مركزا موردا ومستوردا للسلع في وقت مبكر، بمعنى أن مرسى الدار البيضاء، منذ أواخر القرن 19، عرف رواجا تجاريا قبل بدية تهيئته في بداية القرن 20 م.
أصبحت المدينة مع مرساها مصدر مداخيل وعائدات مالية من الضرائب، نجهل أين وعلى ماذا كانت تصرف، كما ازداد عدد الأمناء، حيث نظمت الجبايات بنظام الأمناء في عهد السلطان الحسن الأول (1873 – 1894) بعد أزمة الجفاف الذي ترتب عنه المجاعة والوباء لسنة 1878، تراجع الإنتاج الفلاحي فأثر على التجارة بالمرسى، ولم يلبث أن عادت الحياة التجارية إلى طبيعتها منذ 1884. فعاد المرسى إلى مكانته المركزية في عملية التوزيع.
احتل المرسى ومدينته المرتبة الأولى في الرواج التجاري ما بين 1888 و1892 و1906، خلال هذه السنوات ارتفع حجم المبادلات التجارية، لذلك احتل ميناء الدار البيضاء الصدارة بين الموانئ المغربية الأطلسية. منذ 1906 ارتفعت وثيرة القيادة لفرنسا فاحتلت المرتبة الأولى في التجارة بمرسى الدار البيضاء، ثم تلتها بريطانيا وفي المرتبة الثالثة ألمانيا. وهي الدول التي كانت في صراع فيما بينها حول المغرب.
مع تزايد النشاط التجاري بمرسى الدار البيضاء وتركز التجار الأوروبيين بسماسرتهم ووكلائهم، ارتفع منحنى هجرة الأوروبيين نحو المدينة. وصل عدد الأجانب المستقرين بالمدينة ما بين 1866 – 1867 إلى حوالي 100 / نسمة، نلاحظ من خلال هذا الرقم، أن عدد الأجانب أقل بكثير من قوة وحركة التجارة الموجهة للتصدير. هل يرجع هذا الضعف إلى الاضطرابات بين القبائل والمخزن أم يرجع إلى بداية الأزمة الطبيعية الممثلة في الجفاف وما ترتب عنه من قلة الإنتاج والأمراض التي ضربت المغرب 1878 كما سلف الذكر؟ الشيء الذي أدى إلى تراجع الاستقرار الأوروبي بالمدينة. سنلاحظ من خلال لغة الإحصاء أن المدينة ستعرف استقبال هجرة أوروبية منذ 1895، سيرتفع منحى الهجرة من 570 نسمة إلى 1000 نسمة سنة 1907.
عرفت الدار البيضاء تيارات من الهجرة البدوية، شكلت محرك الازدهار التجاري والحرفي للمدينة ونموا ديموغرافيا سريعا، في سنة 1857 كان عدد سكان المدينة 1200 نسمة، انتقل إلى 8000 نسمة سنة 1867، وفي سنة 1907 وصلت ساكنة الدار البيضاء إلى 30.000 نسمة.
كانت أغلبية ساكنة الدار البيضاء في هذه المرحلة من أصول بدوية، أغلبها من قبائل الشاوية، خاصة من زناتة ومديونة ومزاب وأولاد حريز، ومن عوامل الجذب إلى المدينة، العمل المأجور القار في المرسى كصيادة وحمالة، إلى جانب هذه الفئات المستقرة بالمدينة. وفد عليها سكان حضريون من أغنياء مدن فاس ومكناس ومراكش والرباط، يمتهنون التجارة النظيفة كالذهب والأثواب.