الألباب المغربية/ محمد خلاف
عشق الأماكن القديمة؛ هيام تتوارثه الأجيال؛ يتأصل فينا مع مرور الزمن؛ يشدنا ويؤثر فينا رغما عنا؛ ويحول الذكريات إلى شعور واحد؛ وهو الكمد والشجن على رحيل كل تلك الأيام النضيرة المقتولة على ضاحيات حاضرنا السقيم؛ كما إعصار هائج أفقدنا السيطرة على أعماقنا؛ وشل حركاتنا الطبيعية في حياة فقدنا التأقلم مع أحداثها؛حيث تبدلت الديار وتغير الناس؛ وانقلبت الموازين؛ فسفك دم الأحلام؛ والتوهج والإندفاع؛ والتأسيس والبناء؛ فهل تعود ذكرياتنا الجميلة ونعيد ترميم ماضينا الجميل؟ ومن سيعيدها لنا؟ وهل ستبقى عالقة في مخيلتنا رغم تباعد الأيام وازدحامها بعدما فرقتنا الدنيا؛ ومضى كل إلى طريقه يلملم جوانح قلب وفي لتاريخه؟
ومن الأماكن العتيقة بمدينتي؛ روضة النصارى وهي تعود للفترة الإستعمارية؛ تزامن بناؤها مع بناء الكنيسة؛ لتخضع لإرادتها؛ تعرضت قبورها لعمليات بأر عشوائية بمنتهى السفالة؛ من قبل مجهولين بحثا عن أشياء باهظة السعر على اعتبار أن الدفن حسب التعاليم المسيحية يتم عبر غسل الميت؛ كاملا؛ وإلباسه قبل الدفن أفضل الحلي والحلل وتعطره بالروائح الطيبة؛وتغطيته بستر أبيض؛ وينيرون شمعتين حوله؛ من قبل الأسرة والأقارب؛ دون بكاء ونحيب؛ أو لطم للخدود؛ فقط بوضع ورود صفراء؛ والإنسحاب في صمت بودي عميق؛ لتلتحق فتيات المنطقة فينخرطن في بكاء ونحيب مفتعل؛ ثم يرمين الزهر؛ فينصرفن كأنهن حققن انتصارا أو ماشابه ذلك؛ شكلت روضة النصارى ملعب كرة قدم بامتياز؛ لدوريات فرق الأحياء لأجيال الزمن الجميل؛ زمن شراء كرة بلاستيك بمساهمات مناصفة بين الفريقين؛ والفائز يظفر بها؛ قضينا فيها نهارات طوال؛ في صراعنا الوهمي مع (الوازاني) جار الروضة؛ وحارسها الأمين؛ كذلك بعض العراقيل التي كان يشكلها الصليب المنتصب في الوسط؛ كان يعتليه الحكام أحيانا؛ كله عبارات ورسوم وشعارات؛ وتربيعات ضامة للعب؛ وكذا بعض القبور البارزة؛ لأن الدفن في الديانات الأخرى؛ يخضع للوضع الإعتباري للميت؛ وقدرة العائلة على إقامة قبر متميز وباد، إنها بحق مكان طافح بالأسرار يلوح من بعيد كباقي الوشم في ظاهر اليد؛ نسجت فيه وحوله قصص حكايات وقصص وشجون؛ يحمل رمزية تاريخية؛ ويمثل رمزا للتسامح العقدي؛ والتعايش الحضاري؛ قبل أن تنقل الرفات مؤخرا؛ ويدمر الصليب؛ ويكثر الحديث؛ عن مصيرها؛ وملكيتها؛ والمشروع المزمع إقامته على أنقاضها وكلفته؛ والجهة المسؤولة؛ في زمن الاستيلاب والتهجين والمذلة وتزاوج خبث النوايا وهيستيريا المال والكراسي.
مروري بروضة النصارى يجعلني أرى ملامح طفولتي؛ ورائحة ماض بهي بطقوسه وذكرياته؛ وأناسي؛ أطلالها اليوم تقف دامعة؛ تحاول التشبت؛ ببقايا عالقة من أرواح هائمة هنا وهناك؛ كطفل انتزع الموت منه أمه. فمهما كانت الذكرى؛ لنتلذذ لحظة المكان؛ فقد نغيب كالغروب؛ وقد يلهينا الزمن؛ لكن نبض القلب؛ لاينسى الأمكنة والأحبة بمدينتي
إلى حلقة قادمة ومكان قديم أخر…