الألباب المغربية/ حبيل رشيد – ابن أحمد
في فسحةٍ من زمنٍ لا يشيخ، يعود المشهد ليستيقظ من جديد، كأن الذاكرة تسترجع دفاترها الأولى، وتنفض الغبار عن أوراقٍ ارتجفت فيها أحلام الطفولة وهي تصعدُ سلّم المسؤولية. بعد سنة كاملة، يعود اسم مهدي ترابي ليُشرق من جديد في سجلّ المشاركة الوطنية المهيبة ضمن الدورة الوطنية لبرلمان الطفل؛ تلك اللحظة التي لم تكن مجرّد حضورٍ عابر، بل كانت امتحاناً لوعيٍ غضّ، وتمريناً على المواطنة، واستحضاراً جليلاً لرسالة الطفل حين يصبح شريكاً في صناعة القرار، لا مجرد متفرّج على مشاهد الوطن.
كان الخامس عشر من نونبر سنة 2024 موعداً يختزن من الرهبة ما يليق بالأيام الكبيرة، كان التاريخ يتوشّح بعباءة رمزية، إذ يتقاطع اليوم العالمي لحقوق الطفل مع الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس برلمان الطفل بالمغرب. في ذلك اليوم، انطلقت أشغال الملتقى الوطني من مدينة الرباط، تحت الرئاسة الفعلية لصاحبة السمو الملكي الأميرة الجليلة للا مريم، وفي حضن المرصد الوطني لحقوق الطفل؛ مؤسسة رسّخت عبر عقود من العمل ثقافة الإصغاء لصوت الناشئة، وجعلت من اقتراحاتهم مرآةً تستشرف بها السياسات الوطنية في حماية حقوق الطفل وضمان كرامته.
في هذا السياق، برز تلميذنا مهدي ترابي ممثّلاً لــ الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الدار البيضاء – سطات، حاملاً معه ليس فقط صوته الشخصي، بل نبض جيلٍ كامل يبحث عن اعترافٍ بمكانته وقدرته على المشاركة في صوغ المستقبل. كان حضوره لافتاً، هادئاً في سلوكه، واثقاً في مداخلاته، مترسّخاً في وعيه بأن برلمان الطفل ليس فضاءً بروتوكولياً، بل فضاءً حرّاً لتبادل الرؤى، وتقديم البدائل، وبلورة أفكار تلامس جوهر السؤال الحقوقي بالمغرب.
إنّه اليوم، وبعد مرور سنة كاملة، يعود المشهد كأنه مسرح مفتوح على الدهشة. ذكريات المشاركة تعود ببطء، لكنّها تحتفظ بحرارتها الأولى: قاعاتٌ امتلأت بحوارات جادّة، نقاشاتٌ تشبه نضج الكبار، ولحظات إنصاتٍ يُدرك فيها الجميع أن صوت الطفل ليس هامشياً، بل مؤثثاً لجوهر مشروع التنمية. ففي الدورة الوطنية لبرلمان الطفل، لم يكن الأطفال يناقشون همومهم فقط، بل كانوا يُمسكون بقضايا الوطن كلّها: الحماية الاجتماعية، التربية، التكنولوجيا، الأمن الرقمي، البيئة، القضايا المجالية، وتحديات المستقبل.
أسدل الستار آنذاك على ملتقى الشباب والابتكار، وهو عنوان لم يكن عادياً؛ فقد أراد المشرفون على التنظيم أن يمنحوا منصّةً للذكاء الطفولي كي يعبّر، وأن يفتحوا أبواباً يتدفق منها الخيال والحلول، لا مجرد التشخيص. وفي قلب هذا الحراك الفكري، كان مهدي ترابي يلتقط خيوط النقاش، ينسّق أفكاره بعناية، ويقدّم وجهة نظر تُبرز استيعابه للتحولات التي يعيشها الطفل المغربي داخل مجتمعٍ متسارع الخطى، تحكمه التكنولوجيا وتضغط عليه تحديات العصر.
ومع مضيّ الأيام، تبيّن أن المشاركة في برلمان الطفل ليست حدثاً يُروى ثم يُنسى، بل تجربة تُعيد صياغة شخصية المشارك، وتطبع وعيه بميسم المسؤولية. لقد عاد مهدي بعد انتهاء الدورة لا كما ذهب؛ عاد أكثر استعداداً للسؤال، أكثر شغفاً بالبحث، وأكثر قدرة على إدراك معنى أن يكون للطفل دورٌ في الرقابة والمساءلة وصياغة المقترحات. وهذا لبّ الفكرة التي قامت عليها التجربة المغربية منذ ميلاد برلمان الطفل: إشراك الناشئة في اتخاذ القرار، وإتاحة فضاءٍ مؤسساتي يمنحهم الجرأة على التعبير والعمل المشترك.
ومع مرور سنة، يصبح لزاماً على الذاكرة أن تتوقف قليلاً أمام هذا المسار لتقرأ بعض ملامحه. فالمغرب- ومن خلال المرصد الوطني لحقوق الطفل- لم يكن يحتفل بذكرى ربع قرن من تأسيس برلمان الطفل مجرد احتفال رقمي، بل كان يؤكد تراكماً مؤسساتياً حقيقياً، جعل من التجربة نموذجاً عربياً وإفريقياً يُشار إليه. إنها تجربة تنضح بالإنصات، وتستثمر ذكاء الأطفال في تطوير السياسات العمومية، خصوصاً في لحظة دولية تتعالى فيها الدعوات لتمكين الأجيال الصاعدة من المشاركة.
ولعلّ أهم ما ميّز مشاركة مهدي ترابي خلال تلك الدورة، هو إدراكه أن القضايا التي تُناقش ليست نظريات معلّقة، بل هموم يومية يعيشها الطفل المغربي؛ من الحق في تعليم جيد، إلى الحق في حماية رقمية داخل الفضاء الافتراضي، وصولاً إلى الحق في بيئة سليمة، وتكافؤ الفرص، والمشاركة في الأنشطة الثقافية والرياضية، وغيرها من الحقوق التي شكّلت محور الدستور والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب. وقد تمكّن مهدي من ترجمة هذا الوعي إلى تدخلات رصينة، تُبرز حسّه بالمسؤولية تجاه محيطه.
إن ذكريات تلك الأيام السبعة، الممتدة من 15 إلى 21 نونبر 2024، لا تزال تنبض بالمعاني. فمن الرباط، العاصمة التي تحتضن إرثاً تاريخياً وثقافياً عريقاً، مروراً باللقاءات الرسمية والورشات، وصولاً إلى جلسات النقاش الداخلية بين الأطفال البرلمانيين… كانت التجربة مدرسةً في المواطنة، ومختبراً حقيقياً لتنمية القدرات الخطابية والتحليلية لدى المشاركين.
واليوم، ونحن نعيد بناء المشهد بعد مرور عام، تبرز صورة مهدي ترابي كأحد الوجوه التي وضعت بصمتها على الدورة بتميزها ورصانتها. ليس لأنه حضر فقط، بل لأنه فهم قيمة المشاركة، وأدرك أن صوت الطفل حين يُصغي إليه الوطن، يصبح جزءاً من مشروع الإصلاح. وبهذا المعنى، فإن مشاركته تُجسّد روح المبادرة لدى الجيل الجديد، وترسّخ قناعة مفادها أن بناء المستقبل لا يكون إلا بإشراك العقول الصغيرة التي تحمل طاقةً أكبر مما يُتَصوّر.
وفي هذا الاستحضار، يتجلّى درسٌ مهم: الذكريات لا تُستعاد من أجل الحنين وحده، بل من أجل تثبيت أثرها في الزمن. وما تجربة مهدي في برلمان الطفل إلا جزء من سيرة جيلٍ يؤمن بأن الوطن يتقدّم حين يمنح الكلمة لأبنائه، ويثق في قدراتهم، ويجعل من مدارسهم وأنديتهم ومؤسساتهم منصّات للفعل والإبداع.
وهكذا، يظل هذا الحدث- بعد عام من انعقاده- شهادة على أن الطفل المغربي يستطيع أن يساهم في النقاش العمومي، وأن يفتح نوافذ جديدة للتفكير، وأن يكون شريكاً لا تمثيلاً رمزياً فقط، بل شريكاً فعلياً في صناعة الغد. ويبقى مهدي ترابي واحداً من تلك النماذج التي تُعيدنا دائماً إلى سؤالٍ كبير: ماذا لو أدركنا حقاً أن الطفولة ليست مرحلة انتظار، بل مرحلة بناء؟