الألباب المغربية/ د. حسن شتاتو
يشهد العالم اليوم تحوّلات متسارعة في موازين القوى، ويُدرك المراقبون أن من لا يملك رؤيةً حازمة في قضاياه السيادية سيجد نفسه في موقع الدفاع بدل القيادة. ومن هذا المنطلق، آن للمغرب أن يرسّخ نهجه الواضح والحازم في ملفّ الحكم الذاتي بالصحراء المغربية، باعتباره خيارًا سياديًا نهائيًا لا يقبل المساومة ولا المراوغة.
- أولًا: الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية
الحكم الذاتي المقترح من طرف المغرب سنة 2007 ليس استقلالًا ولا انفصالًا، بل هو نظام لا مركزي سياسي موسّع داخل وحدة الدولة الترابية والسيادية. فالمغرب يحتفظ بالسيادة الكاملة على الإقليم، ويتكفّل بكل ما يتعلّق بالدفاع والأمن والعلاقات الخارجية والثروات الطبيعية والسياسات الكبرى.
وفي المقابل، يمنح الحكم الذاتي للجهة الصحراوية سلطات محلية واسعة في مجالات التنمية، التعليم، الصحة، الثقافة، والاقتصاد المحلي، مع مؤسسات منتخبة (برلمان محلي وحكومة جهوية) تُدير الشؤون اليومية وفق القوانين المغربية. إنها صيغة متقدّمة من اللامركزية السياسية تضمن وحدة الدولة وتفتح آفاق التسيير الذاتي المسؤول.
- ثانيًا: الفرق بين الجهوية المتقدّمة والحكم الذاتي
النظام الجهوي الحالي هو لا مركزية إدارية خاضعة لوصاية الدولة المركزية، أما الحكم الذاتي فهو لا مركزية سياسية موسّعة تتيح للجهة سلطة القرار في حدود السيادة الوطنية.
فالجهة الصحراوية، وفق هذا التصور، ليست “دولة داخل الدولة”، ولكنها كيان جهوي قويّ يتمتع باستقلال محلي واسع دون أن يخرج عن الإرادة العليا للمملكة، خصوصًا في مجالات المعادن، السواحل، الفلاحة، والثروات الوطنية الكبرى.
- ثالثًا: لماذا لا يُعمّم نهج الحكم الذاتي على باقي الجهات؟
تجربة الحكم الذاتي يمكن أن تتحول إلى نموذج وطني متكامل يُطبَّق على جميع الجهات المغربية في إطار سيادة صارمة لا تقبل التساهل.
فإذا كانت الدولة تحافظ على وحدتها وسلطتها في القضايا الكبرى، فإن منح الجهات استقلالية أوسع في التدبير المحلي سيُطلق طاقاتها في التنمية والاستثمار والابتكار، ويخلق منافسة إيجابية بينها لتقديم الأفضل، بدل انتظار القرارات من المركز.
كما أن التعاون بين الجهات سيكون أفقيًا أولًا، فيما بينها، لتقاسم الخبرات والمشاريع، قبل انتظار تدخل الدولة المركزية، مما يعزّز التكامل الوطني.
- رابعًا: سلبيات محتملة على الدولة المركزية
رغم وجاهة الفكرة، إلا أن تعميم الحكم الذاتي قد يطرح تحدياتٍ قابلة للضبط، منها:
- احتمال تفاوت التنمية بين الجهات الغنية والفقيرة.
- خطر تضارب القرارات إن لم تُحدّد السلطات بدقة.
- ضرورة إعداد نخب جهوية مؤهلة قادرة على ممارسة الحكم الرشيد.
- الحاجة إلى قوانين صارمة تمنع أي نزعة انفصالية أو تجاوز للسيادة الوطنية.
لكن هذه السلبيات تُعالج بالرقابة الدستورية والصرامة في تطبيق مبدأ السيادة الواحدة للدولة.
- خامسًا: الصحراء المغربية جزء من الامتداد الطبيعي للأمة
إنّ الصحراء تمتد من السواحل المغربية على المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر، وهي فضاء جغرافي وحضاري مشترك بين شعوب عربية وإفريقية عديدة.
فلماذا لا يطالب من يسكن باقي الصحارى في العالم بالانفصال؟ ولماذا لم تُطالب الجزائر بانفصال سكان صحرائها الكبرى الممتدة إلى حدود مالي والنيجر؟ ولماذا ترفع شعار “حقّ تقرير المصير” فقط عندما يتعلق الأمر بالمغرب؟
الجواب واضح: لأنّ المغرب هو الدولة الوحيدة التي صحراؤها مغربية الهوية والتاريخ والأرشيف، ولأنّ خصوم وحدته يعلمون أنّ الوثائق التاريخية والإدارية – الإسبانية والعثمانية والفرنسية والمغربية – تُثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الصحراء كانت دائمًا تحت السيادة المغربية، وأنّ روابط البيعة والولاء لم تنقطع يومًا بين القبائل الصحراوية والعرش العلوي.
- سادسًا: لا علاقة لجهة الصحراء بأي طرف خارجي
يجب أن يُؤكَّد بوضوح أن جهة الصحراء المغربية لا ترتبط بأي علاقة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية مع الجزائر أو موريتانيا. فالمغرب وحده هو الذي يحدّد سياساته العامة، وهو صاحب القرار في اقتصاده، وحدوده، وسواحله، وأمنه البحري والبري.
الجزائر خصم استراتيجي وعدوّ تقليدي، وموريتانيا، رغم علاقات الجوار، ما تزال تضمّ بين أراضيها من يناصب المغرب العداء. ومن ثَمّ، لا مجال لأيّ تداخل أو تأثير خارجي في شؤون الأقاليم الجنوبية.
- سابعًا: استرجاع الصحراء الشرقية مسؤولية وطنية
آن الأوان لفتح ملفّ الصحراء الشرقية بجدّية ووضوح، فهذه الأراضي المغربية التاريخية التي اقتُطعت قسرًا في زمن الاستعمار الفرنسي، يجب أن تُدرج ضمن أجندة الاسترجاع الوطني، في إطار الشرعية الدولية والحق التاريخي، وبالاعتماد على الدبلوماسية النشطة والوعي الشعبي واليقظة الاستراتيجية.
- ثامنًا: عودة الصحراويين المغاربة بشروط الوطنية
الحق في العودة إلى الوطن محفوظ للصحراويين المغاربة الذين شملهم الإحصاء الإسباني قبل سنة 1975، ولم تتلطّخ أيديهم بالدماء أو الخيانة.
أما من تنكّر للوطن أو تعاون مع خصومه، فعليه أن يتحمّل تبعات قراره، وفق قوانين حازمة تحمي الدولة من الانتهازية والتلاعب بالهوية الوطنية.
- تاسعًا: لا تساهل مع الجزائر واليقظة واجبة
لقد أثبتت التجارب أن الجزائر تكنّ عداءً تاريخيًا للمغرب، وأنها لا تؤمن بحسن الجوار. لذلك فالحزم في التعامل معها ضرورة وطنية، مع استمرار تقوية الجبهة الداخلية وتعزيز الثقة في القوات المسلحة الملكية التي تواصل تطوير قدراتها وردع كلّ من يهدّد وحدة التراب الوطني.
كما يجب إدماج التاريخ الأسود للجار الحاقد في البرامج التعليمية، حتى يعرف الجيل الجديد حقائق الجغرافيا والسياسة، ومن هو العدو الحقيقي للوطن.
- عاشرًا: الحزم لا الليونة
لقد انتهى زمن المجاملات السياسية والرهانات العاطفية. فالمغرب القوي اليوم يحتاج إلى موقف حازم ومتماسك:
حزم في الدفاع، حزم في الدبلوماسية، حزم في التربية الوطنية، حزم في السيادة. ذلك هو السبيل لترسيخ وطنٍ آمنٍ بوحدته، متشبثٍ بسيادته، وواعٍ بأعدائه.
الخلاصة: إنّ الحكم الذاتي ليس تنازلًا، بل تجسيدٌ للحكمة المغربية في إطار السيادة الكاملة، وإنّ الحزم هو عنوان المرحلة، لأنّ الوطن لا يُصان بالليونة، بل بالوضوح والعزم والإرادة الراسخة.