الألباب المغربية/ مونة العلاوي
أماط اعتقال الأستاذ جامعي “قيلش”، النقاب عن اختلالات متجذرة في نظام التعليم العالي، إن القضية هنا لا يمكن اختزالها في شخص الأستاذ المذكور أو غيره، إنها فقط الشجرة الصغيرة التي تخفي الغابة الكثيفة، الأمر يتعلق بعربون صغير عن فساد بنيوي متغول يهدد مصداقية الجامعة كمرفق للعلم، ويهدم إحدى أسس التقدم والازدهار.
في يوم من الأيام كانت الجامعة المغربية صرحا عظيما للمعرفة والابتكار، أثمرت نخبا كفؤة وواكبت مشاريع كبرى في مختلف المجالات، على بوصلة الرؤى والتوجهات الملكية السديدة، منخرطة في مسيرة التقدم والإصلاح. كان ذلك في وقت ما، قبل أن تتحول الجامعة، دون تعميم، إلى فضاء ينتج طوابير من العاطلين عن العمل بدون آفاق واضحة، وكفاءات مزيفة تحتل مناصب مسؤولية مهمة، لتصير بمثابة حجرة عثرة في حذاء المؤسسات والإدرات.
اكتظاظ الفصول الدراسية، مقررات متقادمة، برامج تربوية تتغير بتغير الوزراء والحكومات، أبحاث علمية ضئيلة، كلها ليست سوى اختلالات ساهمت فيما نحن عليه اليوم، لكن المشكلة الأساسية ترتبط بغياب الانضباط وقيم الاستحقاق وتكافؤ الفرص، وحضور الإنتهازية والانحراف الأخلاقي مع غياب حس المسؤولية.
نحن أمام أمرين، إما أن نعترف بهذا الواقع المرير ونسعى لتشخيصه بكل موضوعية وتجرد، في أفق وصف علاج ينقذ جامعاتنا، وإما أن نغض الطرف عن دمار يهدد مستقبل أجيالنا، أن نورثهم الفوضى والركاكة و”اللاستحقاق”، رشاوى مقابل الديبلومات، المحسوبية في التوظيف والالتحاق بالتخصصات، سرقة البحوث العلمية، تزوير التقارير، الجنس مقابل النقاط، غياب معايير الاستحقاق في توزيع المنح… كلها مؤشرات واقعية عن مرض قاتل يهدد تعليمنا العالي، ممارسات تغتال ثقافة الاستحقاف والجدارة، وتضعف الثقة في الشهادات الجامعية، وتغرق المؤسسات ب”أطر” بديبلومات عالية مزيفة وتكوين ضعيف أو منعدم، مما يساهم في ضعف أدائها و مساهمتها في تنمية الوطن، ناهيك عن محاربة هؤلاء للكفاءات وقمعها حتى تمنح لنفسها شرعية احتلال المناصب غير المستحقة.
إن ما فعله الأستاذ، وهو بريء حتى تثبت إدانته، أمر مرفوض، لكن علينا أن نحتاط من الوقوع في فخ الاختزال والشخصنة والتجزيء، نُسَخ هذا الأستاذ مع أساتذة الجنس مقابل النقاط تعد بالآلاف في مختلف الجامعات، مع استثناءات طبعا. حتى جريمة الأستاذ، إن ثبتت، فهي لا تدينه لوحده، لأن هناك دائرة كاملة من إداريين وأعضاء لجنة المناقشة وغيرهم ممن يفترض أن يكونوا قد تورطوا في النازلة، لأن الأستاذ لوحده لا يمكنه اقتراف مثل هذه الأفعال الجرمية، الأمر يتعلق فعلا بمافيات حقيقية تتاجر بالعلم والشواهد التي تؤدي معادلتها في الإدارات إلى تخصيص ميزانيات ضخمة تهم ترقيات مبنية على أسس مزورة.
كما نرفض التعميم فنحن نرفض التجزيء، لذلك علينا اليوم التنبيه إلى خطورة استصغار ما يقع، فدخول كفاءات وهمية إلى مجالات حيوية مثل الطب والهندسة والتدريس يعرض الأرواح والخدمات العامة والمنظومة التربوية والقيمية للانهيار، ويساهم في توسيع الهوة الطبقية، حيث يُشترى النجاح لصالح الميسورين، بينما يُهمش الموهوبون من الفئات الهشة. إن خطورة ما يقع تتجلى كذلك في تغذية الفساد الجامعي للإحباط لدى الشباب، مما يهدد التماسك الاجتماعي ويدفع بالكفاءات الحقيقية إلى الهجرة.
وحتى نكون موضوعيين، فهناك أساتذة نزهاء أكفاء، كما هناك مجهودات كبرى تبذل في سبيل إصلاح التعليم العالي، هذا ما لا يمكن نكرانه، إلا أن مختلف البرامج الإصلاحية تركز على المقررات وأنظمة التعليم، متناسية الجوانب المتعلقة بالحكامة والشفافية وتكافؤ الفرص، مما يتطلب حسب رأيي، إنشاء هيئات اعتماد مستقلة تراقب كل صغيرة وكبيرة داخل الكليات، أنظمة انتقاء واختبار دقيقة وصارمة، واستخدام وسائل رقمية محكمة لتوثيق الشهادات ومكافحة التزوير، مع تحسين ظروف العمل وتحديث المناهج وربطها باحتياجات السوق، ناهيك عن ترسيخ ثقافة النزاهة والشفافية عبر حملات توعوية، وإشراك الإعلام في فضح الفاسدين، وتطبيق عقوبات رادعة على المتورطين في الفساد الأكاديمي، وحماية المبلغين عن الفساد.
الفساد الجامعي ليس مشكلة تعليمية فحسب، بل هو قضية تتعلق بالأمن القومي، فبدون جامعة تُنتج علماء وأطباء ومفكرين أكفاء، سيُضيِّع المغرب رأسماله البشري، وبدون قيم الاستحقاق سيُخاطر بمستقبله. قضية أستاذ أكادير يجب أن تكون جرس إنذار لإطلاق حوار وطني جريء، يعيد للجامعة المغربية وهجها ورسالتها الأصلية: بناء عقل الوطن وضميره وازدهاره.
صرخة نحتاجها اليوم قبل الغد، عوض محاولة البعض، منهم أساتذة تحوم حولهم الشبهات، تكثيف خرجات تهَوِّن ما يقع، مدعية النزاهة لنفسها ولأغلبية أفراد أسرة التعليم العالي، متهمة الوزارة حصرا بالمسؤولية الكاملة على مايقع، وهذا يعارض الحقيقة، وإن كانت الوزارة تتحمل جزء من المسؤولية، وكأننا أمام محاولات لتثبيت نظر الرأي العام على تلك الشجرة الصغيرة التي تخفي الغابة الكبيرة، أمام “مسكنات ألم” ستساهم في تأجيل العلاج وتعميق المرض في جسدنا التربوي.