الألباب المغربية/ محسن خيير
في ردهات المحاكم، حيث يُفترض أن تعلو الحقيقة فوق كل الاعتبارات، نجد وثائق تحمل أختام الأطباء والمستشفيات تتحول إلى أداة للالتفاف على العدالة. إنها الشواهد الطبية، التي يُفترض أن تكون سندًا قانونيًا لتوثيق الإصابات والاعتداءات، لكنها أصبحت في كثير من الأحيان وسيلة في يد بعض المتحايلين لتغيير مسار الأحكام القضائية، سواء عبر تضخيم الأضرار أو تلفيق وقائع غير صحيحة، مما يجعل العدالة ضحية لعبة مكشوفة لكنها مستمرة.
فالقانون المغربي، كغيره من التشريعات الدولية، يعترف بالقيمة القانونية للشواهد الطبية، خاصة في القضايا الجنائية والمدنية، حيث تُستخدم لتقدير نسبة العجز أو الضرر الذي لحق بالضحية. غير أن هذا الاعتراف القانوني أصبح مدخلًا لعدد من الممارسات المشبوهة التي تهدد نزاهة القضاء، حيث بات من السهل الحصول على شهادات طبية بمُدد عجز مبالغ فيها، بل إن بعض القضايا تُحسم فيها الأحكام بناءً على ورقة مختومة لا تعكس بالضرورة حقيقة ما وقع. وما يجعل هذه الشواهد تحظى بهذه القوة في ميزان العدالة هو أنها دليل طبي يُنظر إليه بقدر من القدسية القانونية، رغم أنه في بعض الأحيان يكون مجرد وثيقة شكلية لا تعبر عن واقع الإصابة. وهنا يبرز الإشكال الحقيقي: كيف يمكن التوفيق بين ضرورة الاعتماد على التقارير الطبية في المحاكم، وضمان عدم استغلالها للتلاعب بالأحكام؟
المسؤولية هنا تتوزع بين عدة أطراف، أولها بعض الأطباء الذين يمنحون هذه الشهادات دون تدقيق، إما بدافع المجاملة أو مقابل مادي. هؤلاء يتحولون، بقصد أو بغير قصد، إلى مساهمين في إفساد العدالة وتشويه الحقيقة.
أما الطرف الثاني، فهو المتقاضون الذين يلجؤون إلى هذه الأساليب غير النزيهة للحصول على أحكام لصالحهم، سواء في قضايا الاعتداءات الجسدية، الطلاق، التعويضات، أو حتى النزاعات التجارية. فتجد شخصًا يُبالغ في إصابته للحصول على تعويض أكبر، أو آخر يستخدم الشهادة لإطالة أمد النزاع القانوني.
أما الطرف الثالث، وربما الأخطر، فهو النظام الرقابي الضعيف، سواء من قبل وزارة الصحة أو القضاء، حيث لا توجد آلية صارمة للتحقق من صحة هذه الشواهد أو إخضاعها لتقييم مضاد. وهنا يُطرح السؤال: لماذا لا يتم فرض إلزامية الفحص الطبي المضاد في كل القضايا التي تعتمد على الشواهد الطبية؟
في بعض الحالات، لم يعد الأمر مجرد تجاوزات فردية، بل أصبح أشبه بشبكة منظمة تستغل الثغرات القانونية لتحقيق مكاسب غير مشروعة. هناك من يلجأ إلى سماسرة للحصول على شهادة طبية بمُدة عجز معينة، تمامًا كما يشتري أي وثيقة مزورة. وقد ظهرت قضايا في المحاكم المغربية تورط فيها أطباء بسبب تسليم شواهد طبية غير قانونية، بل إن بعضهم تعرض لعقوبات تأديبية وسجينة بسبب التلاعب في هذه الوثائق. وما يزيد الأمر خطورة هو أن بعض هذه الشواهد يتم استغلالها في قضايا حساسة مثل العنف الزوجي، حوادث السير، وحتى القضايا الجنائية، مما قد يؤدي إلى إدانة أبرياء أو الإفراج عن مذنبين بسبب شهادة طبية غير دقيقة.
استمرار هذه الظاهرة دون ردع قوي يؤدي إلى تداعيات خطيرة على النظام القضائي برمته. حين تصبح الأحكام مبنية على أدلة مزيفة، فهذا يعني أن الحقيقة القانونية لم تعد تعكس الحقيقة الواقعية، مما يفتح الباب أمام إدانة أبرياء وإفلات الجناة الحقيقيين من العقاب. والأخطر من ذلك، أن هذه الظاهرة تضعف الثقة في المؤسسات القضائية والطبية على حد سواء، فحين يدرك المواطن أن الشهادات الطبية يمكن شراؤها أو تزويرها، يصبح لديه شك في مصداقية القضاء ككل.
إذا كنا نريد عدالة حقيقية، فلا بد من وضع حد لهذا العبث. ويمكن تحقيق ذلك عبر تشديد الرقابة على الأطباء الذين يمنحون الشواهد الطبية، وفرض عقوبات صارمة على كل من يثبت تورطه في إصدار شهادات غير دقيقة أو مزورة. كما ينبغي إلزامية الفحص المضاد في القضايا التي تتطلب شواهد طبية، بحيث يتم إجراء فحص ثانٍ في مؤسسة طبية مستقلة، مما يحد من إمكانية التلاعب. وإطلاق منصة رقمية وطنية يتم فيها تسجيل الشواهد الطبية وربطها بسجلات المرضى، مما يسهل التحقق من مصداقيتها، يمكن أن يكون حلًا عمليًا في ظل التطور الرقمي. إلى جانب ذلك، يجب تحسيس القضاة والمحامين بخطورة الظاهرة، بحيث لا يتم التساهل في التعامل مع الشواهد الطبية، بل يجب النظر إليها في سياق الأدلة الأخرى المتاحة. كما أن فرض عقوبات زجرية على المتورطين، سواء كانوا أطباء، متقاضين، أو وسطاء في بيع الشواهد الطبية، سيكون له تأثير رادع في الحد من هذه الظاهرة.
فالعدالة ليست مجرد إجراءات قانونية، بل هي منظومة متكاملة تقوم على الصدق والنزاهة والشفافية. وعندما تتحول وثيقة طبية إلى أداة للاحتيال والتلاعب بالأحكام، فهذا يعني أن هناك خللًا عميقًا يحتاج إلى إصلاح جذري. لا يمكن أن نقبل بأن يكون الطبيب شريكًا في الظلم، ولا أن يكون القاضي فريسة لأوراق زائفة. المغرب مطالب اليوم بوضع حد لهذه الظاهرة قبل أن تتحول إلى قاعدة عامة تُهدد أسس القضاء وثقة المواطنين فيه. فالأمر لا يتعلق فقط بنص قانوني، بل بمعركة أخلاقية وقضائية تحتاج إلى حزم وشفافية. فهل نشهد قريبًا إصلاحًا حقيقيًا لهذه الفوضى؟ أم أن لعبة الاحتيال ستستمر في العبث بموازين العدالة؟