الألباب المغربية/ محمد خلاف
صالح موظف بسيط، صموت، رصين، من عائلة متدينة ومتعلمة، غير أنه كان يعشق الخمرة، ولا بد أن ينال حظه منها في كل ليلة، رفقة مجموعة من الندامى جلهم من المثقفين والموظفين، حيث توجد ملايين العوامل التي لا يعلمها إلا هو أدت به إلى ما هو عليه، طيبوبته جعلت العديد من الناس لا تفرّق بين الحكم عليه كشخص والحكم على العمل الذي يقوم به…
كان يقطن وسط المدينة رفقة زوجته وابنه، وغالبا ما كان ينزل من سيارة أحد زملائه ليلا، مخمورا، ثملا يتمايل، لكنه يبحث فقط عن أقرب مسلك لمنزله… وفي إحدى المرات وفي ليلة ليلاء، بينما هو قادم إلى منزله إذا بشابة في مقتبل العمر تعترض طريقه قرب محطة طاكسيات بني ملال، تطلب منه ثمن دواء لأمها طريحة الفراش في غيبوبة بقسم المستعجلات القريب من المكان، والمحتاجة عاجلا لدوام فقر الدم، فحن قلبه أخذ الورقة ورافق الشابة عبر طاكسي صغير إلى الصيدلية الليلية، واشترى الدواء كاملا بثمن يتجاوز ثمنه 300 درهما، وفي نفسه أنه لا يكفي أن تعمل خيرا، بل يجب أن تحسن عمل الخير… وافترق مع الشابة بأدب، ومن عادة صالح أن الخير الذي يفعله في الصباح، ينساه غالبًا في المساء، ويحدث هذا مع الجميع وفي العديد من المرات، وهو لا يتذمر ويستمر بفعل الخير دوما حسب طاقته. ودلف منزله بعد ذلك، اشترى كديدنه بعض الحلويات لزوجته وابنه، صباحا نسي الأمر بتاتا، مرت الأيام وبقي صالح يحاول جاهدا التوفيق بين عمله وحياته الزوجية ، وحياته رفقة ثلة القدامى الذين يعشقون الخمر بطريق تادلة قرب الواد، في أجواء تطبعها الأريحية والانتعاش، والاحترام باعتبارهم من أرقى ناس المدينة التي تفتقر لخمارة كجل المدن..
غير أنه ذات مساء ربيعي جميل، لم يجد رفيقا بسيارته للذهاب معه إلى منطقة الخلفية، فاختار شراء قنينة نبيذ، وبضع جعات من متجر الخمور الكائن بحي الياسمين، واتجه بكيسه الأسود وراء معمل الحليب سنترال حيث أشجار الزيتون المهجورة والموحشة، بعد أن قطع الفراغة، فجلس وحيدا على حجرة معدلة من قبل سكير سابق، واستعمل موسيقى الهاتف، وأخذ يعاقر الخمر بعد أن اقتنى علبة سجائر شقراء غالية، وبعض المواد الغذائية (قطعة)، ومع مرور الوقت و ما أن بدأ الليل في إسدال سدوله حتى توقفت أمامه دراجة نارية من صنع صيني معدلة ميكانيكيا وبسرعة البرق، يمتطيها شخصان ملثمان، فترجل السائق متأبطا سيفا طويلا، باترا ووضعه على رقبة صالح حتى كاد أن يدميها، وأخذا ما تبقى من قنينات الجعة ومبلغ مالي قدر ب 1000 درهم كان بالجيب الخلفي لسرواله، وهاتف ممتاز، وبعد أن استسلم صالح لقدره نهض من المكان للإفلات بجلده بعد أن صحي من كؤوس الخمرة التي دخلت جوفه، وفي لحظة خاطفة نزل من كان خلف سائق الدراجة وبعد همس طويل مع السائق، أرجعت لصالح جميع أموره وماله وهاتفه، وطلب منه الصفح والاعتذار، وأن خيره سابق دون تفسير أو توضيح… كما طلب من صالح أن يرتاح فالمكان محمي من قبلهم تلك الليلة، ورغم رفضه خوفا من مصيدة ألحوا عليه بالبقاء، وأخذ راحته ومنحوه قنينة ماء معدني، وغلاف فضي فاخر للولاعة من صنع إيطالي، وعلب شكولاطة من النوع الغالي، وغادروا المكان بسرعة… لم يفهم صالح ماذا جرى أمامه بعد أن ذهبت الخمرة من رأسه، فبدأ في الاستفسارات الداخلية… كيف كنت سأتعرض لسرقة والضرب والاعتداء، إذا به ردت إلي أغراضي، وأصبحت سيد المكان ؟ كيف ؟ هل خافوا مني وأنا غير قوي ولا أملك سلاح ولا أجيد أي رياضة من رياضات فنون القتال؟.. بعد أن أتم زاده خرج إلى حيث تجزئة الياسمين في انتظار طاكسي صغير لحمله إلى منزله.. ومئات الأسئلة تدور في خلده، كعادته نسي الأمر وقال في نفسه (غير ملي خرجات سالمة عمرني نمشي تما) تفاديا لظروف الليالي، مرت مدة طويلة وبينما هو جالس ذات أحد صباحا بمقهى مجاور لطاكسيات بني ملال وحيدا، حتى أتته نادلة جديدة بالمقهى لتلبية طلبه، وما أن طلب منها قهوته السوداء، حتى رمقت الولاعة بجانب علبة السجائر، وقالت له في استحياء (راك كتحتافظ بالهدايا) لم يفهم شيئا، فقالت له منين جاك هاذ الغلاف ديال البريكة زوين ؟ دون تردد قال لها قصة طويلة، (البريكة ديالي والغلاف هدية من عصابة…!!! فقالت بعد أن حملت له قهوته، سأحكي لك أنا كنت وراء من كان سيعتدي عليك، إنه ابن دربي، وعشيقي، وزوجي حاليا، وهو الذي أمامك (بالبريصة) وكان ذلك زمن المراهقة والطيش والفقر المدقع الذي عشناه، وأنا من أمرته بالكف عنك بعدما تعرفت عليك رغم أني كنت مقنعة، والآن بعدما أمضيت مدة السجن بسبب اعتراض سبيل الغير، غيرت حياتي وأصبحت أكسب قوتي حلالا، وكنت سببا مباشرا… هل تذكرتني الآن… أنا الفتاة التي اشتريت الدواء لأمها ليلا، رحمها الله، خيرك جعلني أتذكرك تلك اللحظة بالزيتون من خلال وجهك وصوتك كما تذكرتك الآن… واغرورقت عيناهما وهما بالبكاء، وأقسم صالح بأغلظ الإيمان أن يقلع عن شرب الخمر من تلك اللحظة.. وتأكد أن إصلاح المجتمع لا يحتاج إلى معجزة أو قوة وإنما يحتاج إلى شيء بسيط: حب الخير للآخرين كما نحبه لأنفسنا، فالمحبة هي المفتاح للإصلاح.