الألباب المغربية/ ذ/ الحسين بكار السباعي – محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان
تأتي الخطب الملكية بلغة بسيطة وواضحة و ببلاغة خاصة، فالملك يخاطب شعبه العزيز، كما أن أي تحليل لمضامين الخطب الملكية السامية، يتطلب منا الرجوع إلى مضامين الخطب السابقة .
إن كل تحليل لخطاب اليوم لا يكون سليما، دون ربطه بسياق الخطب الملكية المرتبط بالسياسة الداخلية، والخارجية للبلاد، لوجود خيط رابط متين بين جميع الخطب الملكية .
وعليه فإن أي قراءة لا تأخذ بعين الاعتبار الخطب السابقة وعزلها عن محيطيها العامين الداخلي والخارجي تبقى قراءة معيبة تزيغ عن الهدف والصواب، فالخطب الملكية بمثابة دروس للفاعل الحكومي المؤسساتي والسياسي، والمجتمع المدني باعتبار أن هذا الأخير أضحى ضرورة وظيفية للدولة في مسار تأسيس وتوطيد الديمقراطية، فهو فاعل وحر ومستقل في المشاركة في تنزيل المبادرات المحلية والوطنية.
سأعود بكم يا سادة إلى موضوع مقالنا، وهو خطاب العرش لربع قرن من حكم جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، فخطاب اليوم المتميز بالواقعية والصراحة، يحمل رسائل وتوجيهات تستحضر طبيعة الظرفية الاستثنائية والدقيقة التي خلفتها تداعيات سنوات الجفاف، والندرة المائية التي تستوجب استحضار الهمم لمواجهة تداعياتها.
الماء… يقول جلالة الملك “من التحديات التي تواجه بلادنا، تحتاج إلى المزيد من الجهد واليقظة، وإبداع الحلول، والحكامة في التدبير. ومن أهم هذه التحديات، إشكالية الماء، التي تزداد حدة بسبب الجفاف، وتأثير التغيرات المناخية، والارتفاع الطبيعي للطلب، إضافة إلى التأخر في إنجاز بعض المشاريع المبرمجة، في إطار السياسة المائية”… ، ليعود جلالته ويؤكد على التشدد على ضرورة التنزيل الأمثل، لكل مكونات البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي 2020-2027، الذي ساهم، والحمد لله، في التخفيف من حدة الوضع المائي.
هنا يا سادة وكما أشرنا إليه في مقدمة مقالنا أنه لا يمكن قراءة الخطب الملكية دون ربطها بالخطب السابقة وفي سياق محيطها العامين الوطني والخارجي، وهنا لنا عودة إلى خطاب جلالة الملك ل 14 أكتوبر 2022 بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية الحادية عشرة والذي دشن من خلاله جلالته نصره الله والذي جاء فيه: “وقد خصصنا عدة جلسات عمل لهذه المسألة، تكللت بإخراج البرنامج الوطني الأولوي للماء 2020 – 2027 .
كما حرصنا، منذ تولينا العرش، على مـواصلة بناء السدود، حيث قمنا بإنجاز أكثر من 50 سدا، منها الكبرى والمتوسطة، إضافة إلى 20 سدا في طور الإنجاز.
وكيفما كان حجم التساقطات، خلال السنوات المقبلة، فإننا حريصون على تسريع إنجاز المشاريع، التي يتضمنها هذا البرنامج، في كل جهات ومناطق المملكة.”
إن خطاب اليوم شبيه بخطاب الأمس، بل تأكيد من جلالته، وكما جاء في سياق خطاب العرش المجيد، على ضرورة: “المزيد من الحزم في حماية الملك العام المائي، وتفعيل شرطة الماء، والحد من ظاهرة الاستغلال المفرط والضخ العشوائي للمياه. كما ندعو بقوة، للمزيد من التنسيق والانسجام، بين السياسة المائية والسياسة الفلاحية، لاسيما في فترات الخصاص، مع العمل على تعميم الري بالتنقيط.”
فالمغرب اليوم، يراهن على حلول مبتكرة لمواجهة الإجهاد المائي، الذي تفاقم بفعل آثار التغيرات المناخية، مع العمل على اتخاذ إجراءات رائدة لتأمين التزود بالماء بشكل مستدام.
وهنا يشير جلالة الملك في معرض خطابه السامي إلى:”الاعتماد على برنامج أكثر طموحا، في مجال معالجة المياه، وإعادة استعمالها؛ كمصدر مهم لتغطية حاجيات السقي والصناعة وغيرها.
ونود أن نؤكد أخيرا، على ضرورة تشجيع الابتكار، واستثمار ما تتيحه التكنولوجيات الجديدة في مجال تدبير الماء.”
خطاب جلالة الملك كان بمثابة استشراف الحلول والبدائل لأزمة الماء نتيجة التغيرات المناخية والاستعمال غير الرشيد والاستنزافي لثرواتنا المائية الباطنية .
من خلال تفعيل البرنامج الوطني للتزود بالماء الصالح للشرب ومياه السقي، والعمل على بناء سدود جديدة، إضافة إلى اعتماد حلول مبتكرة في مجال تحلية مياه البحر، يتبنى المغرب مقاربة استباقية من أجل تأمين تزود ساكنته واقتصاده بالماء بشكل مستدام.
وإسترسالا عزيزي المتلقي في قراءتنا المتواضعة للشق الثاني من خطاب جلالة الملك والذي وقف فيه جلالته على المأساة الإنسانية للفلسطينيين. القضية الفلسطينية، والتي كانت ولا زالت حاضرة في العديد من الخطابات الملكية، فخطاب اليوم تعبير عن ذلك الرصيد والخبرة الكبير الذي يمتلكه المغرب في تدبير الصراع الإسرائيلي الفلسطيني باعتبار جلالة الملك رئيس لجنة القدس .
يقول جلالته: “وبنفس روح الالتزام والمسؤولية، نواصل دعم المبادرات البناءة، التي تهدف لإيجاد حلول عملية، لتحقيق وقف ملموس ودائم لإطلاق النار، ومعالجة الوضع الإنساني.”
ليقدم جلالته خطة طريق لإيجاد حل نهائي لهذا النزاع، وذلك وفق منظور يبدأ أولا بفتح أفق سياسي، كفيل بإقرار سلام عادل ودائم في المنطقة، واعتماد المفاوضات لإحياء عملية السلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ،مع قطع الطريق على المتطرفين من الجهتين معا .
لن يتسنى للفلسطينيين والإسرائيليين إقامة وإرساء الأمن والاستقرار بالمنطقة، إلا في إطار حل الدولتين، مع تأكيد جلالته على اعتبار غزة جزءا لا يتجزأ من أراضي الدول الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية.
ختاما إن الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش المجيد والتي تمثل 25 سنة من اعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه المنعمين .
ربع قرن من البناء والتشييد، في ضل تحديات إقليمية ودولية سياسية واقتصادية واجتماعية، لم يكن الوطن المغربي، بمنأى عن آثارها وتأثيراتها، ربع قرن من النجاعة والحكامة الحكيمة لجلالته، ربع قرن من تجربة ديمقراطية وحقوقية وإنسانية في ظل ملكية ثانية، ربع قرن من الانتصارات تلو الانتصارات الديبلوماسية، جعلت من المغرب قوة يضرب لها ألف حساب، لتكلل بالاعترافات تلو الأخرى بسيادة المملكة على صحرائها. وها نحن اليوم نجني ثمار انتصاراتنا الديبلوماسية، بفعل رؤية متبصرة حكيمة لجلالة الملك، باعتراف فرنسا بمغربية الصحراء والذي سنعود له بالتفصيل بأحد مقالاتنا .
خطاب اليوم خارطة طريق للحكومة ولجميع الفاعلين المؤسساتيين والمجتمع المدني من أجل التدبير العقلاني للماء ومن أجل فلاحة وطنية تحكي ثرواتنا المائية لضمان أمننا الغذائي والمائي والطاقي، خلال سنوات المقبلة.
خطاب العرش اليوم يحمل رسائل ضمنية تتمثل في كون المغرب لن يتوانى عن الدفاع فلسطين وعن غزة والقدس الشريف في إطار الشرعية الدولية وفق حل الدولتين .
المغرب اليوم يا سادة، قوي بمؤسساته وبالمواطن الشريف الغيور على وطنه وثوابته، المساهم في تنمية الوطن، وفي الدفاع عن مصالحه العليا وقضاياه العادلة.