الألباب المغربية / محمد القاسمي
داخل كل مجتمع عادة ما يكون بين أفراده أشخاص طموحين ذوو معايير عالية تنشد النجاح الرفيع، وآخرون ذوو معايير متدنية يبحثون عن النجاح السهل، فإن من يدير اللعبة هي الفئة الثانية عادة، لأن أفرادها أقرب إلى ما تتطلبه الطبيعة اليومية للحياة من التبسيط ونبذ المجهود والقبول بكل ما هو كافٍ للحدود الدنيا. فإن لم يرتفع أصحاب الفئة الثانية إلى المرتبة العالية للفئة الأولى، حرصوا على أن ينحدر هؤلاء إلى دركهم، والانحدار – إن لم يتنبه إليه أصحاب المعايير العالية – هو أمر يحدث بسرعة، وبشكل مراوغ، لا يلبث المرء معه إلا وقد وجد نفسه قد سقط من عليائه، فانضم إلى من في السفح هناك بالأدنى، فالتسفل أيسر من الترفع، وكل مرتفع يقاوم الجاذبية الأرضية، فيما كل منحدر يسلم نفسه بيسر إليها.
ولكن ما هو جوهر كفاءة ھؤلاء الرعاع ؟ إنه القدرة على التعرف على شخص منحط آخر. معا يدعم الرعاع بعضهم البعض (كما يحدث مع الأشخاص الذين يقدمون المحتوى الھابط والمنحط على مواقع التواصل الاجتماعي فهناك ممن يستهويهم هذا المحتوى)، فيرفع كل منهم الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار، فالطيور على أشكالها تقع. ما يهمنا هنا لا يتعلق بتجنب الغباء، وإنما بالحرص على إحاطته بصور السلطة والمشروعية.
إذا كان المظهر الخارجي للغباء لا يشبه التقدم، المهارة، الأمل، أو الرغبة الدائمة في التعديل، فإن أحدا لن يرغب في أن يكون غبيا، فھؤلاء الرعاع مرتاحين في إخفاء أوجه قصورھم في السلوك المعتاد لديھم، ويدعون دائما أنھم أشخاص براغماتيين، ومستعدين للتطوير من أنفسھم، فالحقارة والانحطاط لا تعاني من نقص لا بالقدرة ولا بالكفاءة، بل مفهوم يشير إلى ما هو متوسط، بمعنى أن الرعاع لا يجلسون خاملين، إنهم يؤمنون بأنهم يعملون بجهد.
فالأمر يتطلب مجهوداً لصناعة محتوى معين في مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل المثال، إلا أن الجميع لا يمتلك القدرات الشخصية للوصول إلى هذه الغايات، فالجودة والأدوات التقنية تصبح لازمة لإخفاء الكسل الفكري العميق الذي تنطوي عليه العديد من المهن ذات الأسس الامتثالية في التزامهم بالمتطلبات الدقيقة لعمل لا يعود لهم في الحقيقة، وفي انغماسهم في فكر يأتيهم من الأعلى، فإن ابتذال الأشخاص المنحطين هو أمر يغيب عن أنظارهم هم أنفسهم.
بذلك تكمن مقدرة الرعاع الرئيسة في التعرُف على منحط مثله، حيث يعملان معا على مبدأ أضئ لي أقدح لك، وبيِن لي أجيبك، حتى تقوى شوكة جماعة عددها في ازدياد، إذ لن يطول بهما الأمد في حشد من أمثالهما بتزايد مستمر. ليس المهم تجنب السخافة، بل جعلها تكتسي صور السلطة والمشروعية وهذا ما نجده مع صناع المحتوى المنحط لرواد مواقع التواصل الاجتماعي.
فالشخص الحقير في كثير من الأحيان يتمثل في مخلوق منحط، يستفيد من معرفته بالأخبار الداخلية والدسائس في أوساط السلطة لاستغلال كل موقف، فھؤلاء ينحدرون من خلفية حقيرة، ومع ذلك فإن أشخاصا من ذوي المراتب الاجتماعية العليا كانوا يتأثرون بهم، فھم ليسوا علماء، ولكن على علاقةٍ بالعلماء، وقليلوا الجدارة، ولكنهم يعرفون أشخاصا ذوي جدارة كبيرة، وليسوا حاذقين، ولكنهم ذوو لسان يجعلهم مفھومين.
من خلال ما تقدم يمكننا القول إن الرعاع هم عامة الناس وسوادهم، تشكل فئة هلامية هامشية بلا انتماء وبلا قيادات وبلا تنظيم، ولذلك فإن ھؤلاء الرعاع المنحطين يمثلون في الواقع مادة قابلة للاشتعال أو الانفجار دون رابط أو ضابط، أي إنهم لديهم توقعات وطموحات دون أن يكون لديهم خبرات أو مهارات مناسبة. وھذا يؤكد أن الثقافة بدأت تنحسر وتتقهقر الجدية وينسحب العلماء والمفكرون ويسود الرعاع، وللإِعلام اليد الطولى في ذلك والأعجب عندما تجد النخب الفكرية والثقافية أصبحت تتبع الدهماء. أصبحوا هم من يقرر الأولويات ويحدد المشكلات ويثير الزوبعات، وأصبح المثقفون يحاولون أن يشاركوا في المعمعة وهم لا يفقهون اللعب، أي أن النخب الفكرية أصبحت تبع الرعاع المنحطين فيما يعرض ويناقش، فيما يهم ولا يهم، لأنهم الأكثر شهرة والأكثر حضورا على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتبعهم الآلاف بل الملايين أحياناً.
إن هدف هذه الفئة من المنحطين والرعاع في واقع الأمر هو جني الأموال من خلال التركيز على رفع عدد المشاهدات، والأخص من خلال تقديم المحتوى الهابط الذي يتمحور بشكل أساسي حول الغرائز الجنسية، بالإضافة إلى حب الشهرة والمظاهر التي تكاد تسيطر على عقليات الكثير من الرعاع، من خلال ما يقيمونه من مناسبات، ويطلقونه على أنفسهم من ألقاب، ويقال فيهم من مديح إلى الحد الذي صارت معه هذه الظاهرة قابلة للعدوى تارة بالتقليد، وتارة أخرى بالمنافسة، والمحرك الأول الذي يدفع هؤلاء إلى التقليد والتنافس والبحث عن الذات وتمجيدها، هو الثروة وعلى أساسها تكون المفاضلة والمفاخرة.