الألباب المغربية/ محمد خلاف
تعتبر الحدائق العامة وأماكن النزهة والمساحات الخضراء من أساسيات تخطيط المدن الحديثة والتي تعمل المقاطعات الجماعية على إنشائها لتكون مرافق عامة للمدن للتجول وقضاء أيام الراحة والإجازة للسكان والترفيه عنهم، كما تخصص في هذه الحدائق أو المتنزهات أماكن خاصة لممارسة بعض الرياضات مثل رياضة المشي والهرولة أو الجري في أجواء نقية مشبعة بالأوكسجين الذي تطلقه الأشجار والنباتات في هذه الحدائق، كما يستطيع الأطفال ممارسة ألعابهم في جو نقي وبعيد عن أخطار السيارات التي طالما حصدت الكثير من أرواحهم وهم يلعبون في الشوارع…
الحديث هنا ينطبق على لاربعا زمنا جميلا حيث كانت ذات حدائق خضراء غناء كحديقة القرض الفلاحي؛ حديقة الجدارمية؛ حديقة الكندي؛ حدائق قرب المستشفى والبوسطة؛ حديقة باب الأحد بالقيسارية؛ وحديقة طريق سيدي أحمد الضاوي؛ ثم أخلت الأشجار والحقول أماكنها تباعاً لهياكل الإسمنت في زمن قصير قياسي؛.. وربما كان لا بُدّ من تمدُّد المدينة مع تكاثر سكانها وتركُّز المؤسسات فيها، لكنّ البناء الكثيف لم يترك مساحات خضراء للمدينة كي تتنفس منها.
من الأخطاء التي يصعب تداركها في تخطيط المدن الحديثة شيئان: عدم توقع كثافة السير لعقود تالية، وتصميم شوارع لا تلبث حتى تضيق بمستخدميها ويتعذر توسيعها بسبب البناء على جانبيها؛ وعدم ترك مساحات في الأحياء والضواحي لإنشاء حدائق عامة محليّة. ويُمكن فهم أن تكون شوارع المدينة القديمة مثل شارع الليمون وشارع غنيم؛ وشوارع أخرى كثيرة ضيقة لأن مبانيها قديمة جداً وليس من الحكمة العبث بحقوق الناس في السكن؛ لكنّ الأحياء التي نشأت في الأوقات الحديثة لا تمتلك مثل هذا العذر.
في الفقيه بن صالح أنشئت معظم الأحياء الجديدة في الضواحي؛ وحدث أن قدّر المخطّطون أن شوارع المدينة بمسارب على كل جانب سيكون مناسباً إلى الأبد في المناطق الجديدة. وبذلك، سُمح بالبناء على جانبي الشوارع دون ترك مسافة احتياطية للتوسع المستقبلي. والآن، تبين أن التقديرات لم تحسب حساب ثلاثين أو عشرين سنة، ويكاد يتعذر استملاك المباني التجارية هائلة الأثمان لتوسيع الشوارع التي أصبحت صعوبة السير فيها مشكلة يومية. وقد يكون هذا الاتجاه نفسه سائداً أيضاً في التخطيط الحضري للأحياء الجديدة في المدينة، حيث لا تُحسَب التطورات السكانية والعملية بعيدة المدى.
وينطبق الأمر نفسه على الحدائق، عندما لا تكون المدن على بحر ولا يقطعها نهر، يكون متنفسها الوحيد هو المساحات الخضراء التي ينبغي أن تكثر في الأحياء. إنها ضرورية بيئياً، لتلطيف الطقس، ومساعدة الأمطار وتصفية الهواء. وضرورية جمالياً ونفسياً عندما ترى العين مشهداً مريحاً ويجد المرء مكاناً خارجياً جميلاً يغير فيه جو المنزل. وهي ضرورية للسلامة، حيث الأطفال ويتنزه الناس من دون الجلوس على حواف الشوارع أو قطع مسافات بالسيارات إلى أماكن التنزه البعيدة (ما يقع قرب باراج البوليس بالياسمين َنموذجا)؛ ويحكي مشهد السيارات بشوارع المدينة( الحسن الثاني نموذجا) حيث الاكتظاظ و لا تخطيط يعتد به؛ حيث يقضي على الكثير من حاجات الناس اليائسة إلى الفضاءات الجميلة. وسوف تتقدم المباني على هذه الأراضي أيضاً كما فعلت مع العديد من مناطق المدينة الخضراء وغيرهما من الأماكن التي كان الناس يقصدونها للتنزه في الجوار قبل أن تغزوها المباني.
الآن، ثمة بعض الأراضي التي لم يطلها البناء بعد في مختلف مناطق المدينة. ومع أن أثمان الأراضي مرتفعة في بعض الأماكن، إلا أن الأمر يستحق أن تشتري الدولة هذه الأراضي بثمن عادل وتستدرك فتنشئ رئات لتتنفس بها المدينة. وليس هذا استثماراً خاسراً، لأن للمدن صحتها وروحها وأجهزتها الحيوية مثل الكائنات الحية. وكان وما يزال من الممكن التفكير في استعارة الأراضي الفارغة غير المستخدمة من مالكيها بموافقتهم وزراعتها واستخدامها لتنفس الأحياء إلى أن يحتاجها أصحابها. وهناك أراض خالية منذ عقود، لا هي مبنية ولا مزروعة ولا فيها شيء من جمال.
وبالنسبة للشوارع الجديدة، يجدر التعلم من أخطاء الماضي والاحتفاظ بمساحات على الجانبين لإمكانية توسيعها عندما تدعو الحاجة. وفي هذا أيضاً، ربما يكون لهذه الأراضي مُلاك ويتطلب الأمر دفع ثمنها لمصلحة الشارع. لكنّ لهذا الاستثمار مبررا أيضاً عندما يُهدر الوقت وتضيق الأرواح بسبب ازدحام الطرق. أضف إلى ذلك عدم وجود مسارات لسيارات الإسعاف والمطافئ، ولا مضامير للدراجات الهوائية والمشي التي تميز كل مدينة حديثة، وحيث ممارسة هذه الأنشطة في شوارع بلا أرصفة ولا إنارة مناسبة مغامرة بالحياة.
في النهاية، يُفترض أن المواطنين يدفعون ضرائبهم ورسومهم لقاء الخدمات، ومنها الحدائق والشوارع المريحة الآمنة. وينبغي أن تؤخذ احتياجاتهم الحالية والمستقبلية في الحسبان لدى التخطيط لحياتهم وحياة أبنائهم.
أما عن الأهمية البيئية للحدائق فحدث ولا حرج…. فمن المعروف أن الهواء في المدن المكتظة غالبا ما يكون مشبعا بأكاسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت وغيرها من الملوثات الصادرة من دخان السيارات والمصانع وغيرها. وهنا يأتي دور الحدائق والمتنزهات والمساحات الخضراء في التخفيف من هذا التلوث بسبب قيام النباتات بامتصاص هذه الغازات وإطلاق الأكسجين من خلال عملية التمثيل الضوئي.
إن ما نشاهده في مدينتنا الحبيبة لهو مؤسف حقا حيث تنتشر الغابات الاسمنتية والاسفلتية في كل مكان وحيثما ذهبنا نشاهد الكثير من المشاريع العمرانية والحفريات التي تطلق الاف الاطنان من الغبار والاتربة في الهواء الذي يتنفسه البشر وغالبا ما تكون محملة بالفيروسات والبكتيريا الضارة، ولا نكاد نجد سوى القليل القليل من الحدائق الصغيرة التي لا تفي بالواجب ولا تشفي الغليل. معظمها خضع لعمليات ترقيع ناقصة ووهمية حيث الإنارة تنعدم و الأعمدة تهدد حياة الأطفال والنباتات شائكة والكراسي مهترئة؛ والمساحات ضيقة؛ وانعدام الحراسة والصيانة؛ واستحواذ المشردين واللصوص على معظمها؛ لقد حان الوقت لأن يعي مخططو المدنينة ومهندسوها أن جمال المدينة وحضارتها يكمن في خضرتها ومياهها ونوافيرها بالاضافة الى نظافتها وحسن تنظيمها وأن مدينتنا تتمتع بجمال العمران لا ينقصها سوى المساحات الخضراء لتكتمل صورتها الجميلة. فمتى يشغل هؤلاء المهندسون في البلديات بالغيرة والجدية فيسارعون لبناء الحدائق والنوافير في قلب لاربعا وأطرافها وأن يبذلوا الغالي والرخيص في تنفيذ هذه المشاريع الضرورية لصحة المواطن ورفاهيته..
أين نحن من نظرية المدن الحدائقية كأسلوب حياة جميل طوره الإنجليزي ابنيزر هوارد سنة 1898م؟ هل ستبقى لاربعا مدينة بلا هواء ولا هوية بعدما ضاقت بنا مساحة السماء والأشجار والهواء.