عزيز لعويسي
جلسات مارطونية من الحوار والتفاوض بين النقابات التعليمية والوزارة الوصية على القطاع، لم تنجح إلى حدود كتابة هذا المقال، في التوقيع على اتفاق مشترك، يعبد طريق النظام الأساسي المرتقب لموظفي وزارة التربية الوطنية، ليكون الصمت سيد الموقف، بعدما وقف “حمار” شيخ الحوار والتفاوض في العقبة، فلا هو تحرك نحو القمة ليزف البشارة المنتظرة، إلى أسرة التعليم التي لازالت تطارد سراب التقدير والاعتبار، ولا هو تراجع ولا هو نطق ولا حتى نهق، ليكشف عن سوءة الحقيقة الضائعة بين متاهات اعتبار طال أمده، وكأن في الصمت حكمة، وفي الإضراب عن طعام الكلام، “كلام”يقوي الإحساس بالنسبة لمن يترقب هبوب الرياح المرسلة للنظام المنتظر، أن التعليم لازال يقاس بلغة الحسابات وهواجس الربح والخسارة وشماعة الموازنة، وأن “المعلم” الذي قال فيه الشاعر “قم للمعلم وفيه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا”، لا هو عوض آهاته وانتظاراته بما يليق به من تقدير واحترام وتبجيل، ولا هو أدرك منازل الاعتبار والهيبة والقدسية والوقار.
في هذا الصدد، وفي الوقت الذي توقف فيه “حمار” الحوار الاجتماعي القطاعي في العقبة، تاركا خلفه زوبعة من التساؤلات الباحثة عن صدى جواب، نجحت النقابة الوطنية للتعليم العالي بمفردها، في توقيع اتفاق مع الحكومة، يروم في مجمله تجويد منظومة التعليم العالي ورد الاعتبار للأساتذة الباحثين ماديا ومهنيا وتحفيزيا، وهذا الاتفاق الذي وقع – أمام أنظار رئيس الحكومة – من قبلالوزير الوصي على قطاع التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، والوزير المنتدب لدى وزيرة الاقتصاد والمالية، المكلف بالميزانية، والكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم العالي، يؤكد مرة أخــرى أمورا ثلاثة:
– أولها: أن النقابات التعليمية وصلت إلى مستويات مقلقة منالوهن، في ظل ما يسيطر عليها من تفرقة وتجزئة وشتات، ولم تعد قادرة على “قلب الطاولة” ولا على “وضع العصا فالرويضة”.
– ثانيها: أن أسرة التعليم باتت فرقا وشيعا وخوارج، وباتت تعيش اليوم، على وقع الأنانية والانهزامية والخضوع والتواكل، والعبث النضالي.
– ثالثها : أن الحكومة كغيرها من الحكومات السابقة، لاتبدي الإرادة والاستعداد والجاهزية، لما يتعلق الأمر بالنهوض بالأوضاع المادية والمهنية والاجتماعية لنساء ورجال التعليم، بخلاف ما حدث مع أساتذة التعليم العالي، وقبلهم مع الأطباء والممرضين والقضاة وكتاب الضبط وغيرهم، بكل ما يترتب عن هذا التعامل، من إحساس بالغبن والتصغير و”الحكرة” في أوساط الشغيلة التعليمية.
وبقدر ما نهنئ أساتذة التعليم العالي على ما سيتحقق لهم من مكاسب مادية وشروط مهنية تحفيزية، بفضل وحدة الصف ومتانة النضال، بقدر ما نأسف على واقع حال نساء ورجال التعليم المدرسي، الذين يتقاسمون أطباق القلق واليأس والإحباط وانسداد الأفق، في ظل واقع مهني فاقد لأدنى شروط التقدير والعناية والتحفيز، تحول إلى “حائط مبكى” تعلق عليه الخيبات والانتكاسات والتراجعات، وسط حالة من الفرجة والتوجس والترقب، تشجع صناع القرار التعليمي، على المزيد من “اللف” و”الدوران” و”التسويف” و”الوعود” و”التلكؤ” و”الهروب إلى الأمام”، لتمرير نظام أساسي بأقل تكلفة ممكنة إن لم نقل بالمجان.
ونأمل أن يكون هذا الرأي مجرد توقعات وتخمينات، وأن تكون الوزارة الوصية على القطاع ومن ورائها “الحكومة الاجتماعية” في مستوى هذه اللحظة التعليمية المفصلية، التي تقتضي تحرير قطاع التعليم من هواجس الربح والخسارة ولغة الموازنة، والتعامل معه كقطاع حيوي استراتيجي يستحق إحاطته بما يكفي من العناية والدعم والتحفيز، باعتباره طريقا لا محيد عنه، لبلوغ نهضة تربوية، تقود المغرب إلى مرحلة الإقــلاع التنموي الشامل، انسجاما وأهداف ومقاصد النموذج التنموي الجديد، وإذا كانت الحكومة تضع “الإصلاح” في كفة و”الهواجس المالية” في كفة ثانية، في تعاملها مع الملفات المطلبية للشغيلة التعليمية، نذكرها أن ضريبة الجهل أثقل، وفاتورة تنزيل نظام أساسي “على المقاس الحكومي” لن تــكون إلا أقسى.
وعلى الرغم من انتقادنا لحالة الوهن التي تعيشها النقابات بسبب التفرقة والتجزئة والشتات، ليس هناك من خيار، سـوى مطالبتها بطرح أسباب النفور ودعوتها إلى تعبئة القواعد ولم الشمل، حتى تكسب رهان إخراج نظام أساسي يليق بانتظارات وتطلعات الشغيلة التعليمية، تتحقق فيه شروط العناية والتحفيز والوحدة والعدالة والإنصاف والاعتبار، على أمل أن يتوج اللقاء المرتقب بعد أيام، بين الوزير الوصي على القطاع والكتاب العامين للنقابات التعليمية الخمس الأكثـر تمثيلية، بتوقيع اتفاق تاريخي، يقطع بشكل لارجعة فيه مع ثقافة الاحتقان في الحقل المدرسي، ويعبد الطريق لإرساء نظام أساسي جديد، يقوي الإحساس بالثقة والأمل في أوساط الشغيلة التعليمية، لتنخرط بروح مواطنة ومسؤولة في بناء مدرسة الجودة والأمل والحياة …