الألباب المغربية/ سمير السباعي
يطرح موضوع التقدم في عالم اليوم أسئلة كبرى ليس فقط على مستوى ماهية المفهوم في حد ذاته ومدى تحققه في الواقع الإنساني الجمعي، وإنما أيضا على مستوى مدى نجاح أشكال التقدم القائمة في تحقيق معنى وجودي للإنسان.
ضمن هذا الإطار نظمت كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك بالدار البيضاء، يومه الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 بقاعة عبد الواحد خيري، لقاء فكريا من تقديم المترجم والمفكر والشاعر اللبناني عيسى مخلوف، تحت رئاسة عمر لمغيبشي نائب عميدة الكلية المذكورة في الشؤون البيداغوجية وبمشاركة تسييرية للباحث أشرف حساني الإعلامي والناقد في الجماليات. لقد برز هذا اللقاء كفرصة لفتح نقاش علمي حول ما يمكن أن يطرحه التقدم في عالمنا اليوم من تساؤلات مفاهيمية وقيمية ووظيفية وبتفاعل ومشاركة من طرف عدد من الباحثين والطلبة والأساتذة والإعلاميين، خصوصا أن الخلفية الفكرية لمخلوف كباحث أكاديمي في الأنتربولوجيا الاجتماعية بالإضافة إلى رصيده من الكتابات النقدية التي تتشابك فيها مواضيع الأدب والشعر والجمال دون قدرة القارئ على التمييز فيها بين ما هو موضوعي وذاتي، أعطت الانطباع أن النقاش الفكري لمخلوف مع الحضور سيكون منتجا (تفاعلا مع جزء من كلمات افتتاحية للمغيبشي وحساني). أمكننا عموما الإمساك بثلاثة محاور موضوعاتية بدت كمحركة للأحاديث التفاعلية التي أنتجها لقاء مخلوف مع الجمهور الحاضر. أولا، نجد أن الحديث عن التقدم من منظور أنتربولوجي ابستمولوجي قد احتل مساحة مهمة في النقاش العام للقاء، خصوصا أن الإشارة هنا كانت واضحة من طرف الضيف المحاضر أن معانقتنا للسؤال بما يحيل عليه من رغبة في تجاوز الأجوبة البديهية يشكل في حد ذاته محركا أصيلا للنبش في هكذا مواضيع بعيدا عن سرديات الخطاب الجاهز الحامل لجرعات كبيرة من المطلق، ما يؤكد حسب نفس المتحدث أن الضرورة تصير ملحة لطرح السؤال عن ماهية التقدم الذي نتحدث عنه اليوم وما أوجه حضوره في مجتمعنا العالمي الراهن؟!. ضمن هذا السياق لا يمكن بأي حال إغفال ما كان من مساهمة للتحولات الكبرى التي عرفتها أوروبا خلال عصر الأنوار بالقرن 18م في التأسيس والتأصيل لمفاهيم ورؤى فكرية جعلت من معنى التقدم الإنساني أفقا لتفكيرها وتنظيرها الفلسفي، حيث انبرى مجموعة من هؤلاء في التأصيل للتقدم كولادة معرفية مستمرة في الزمن شرطها الوجودي هو الحوار الحضاري النشيط للأنا مع ذاتها والآخر في نفس الآن، إن صح التعبير. (تفاعلا مع حديث عيسى مخلوف). ليبرز ضمن هذا النسق من التأويل التقدم كوعاء حضاري بإمكانه تمكين الإنسان الجمعي عبر مدخلي العلم والمعرفة من أن يتحقق له نسبيا بلوغ معنى لوجوديته، بما يساهم في تشكيل وعيه الجمعي وضبط تناقضات يطرحها الواقع الإنساني نفسه، محركها هو نزوع الإنسان بطبيعته إلى ممارسة العنف بشكل بنيوي طبيعي حسب القراءة الفرودية أو في تفجيره في لحظات معينة حينما تؤدي سلط النظم الاجتماعية داخل كل مجتمع إلى كبت قدرات الفرد وحاجته التعبير عن العنف على الأقل في أشكاله الجنينية الأولى (تفاعلا مع مداخلة نفس المتحدث). صحيح أن الثورة الصناعية التي عرفتها أوروبا نهاية القرن 18 وبداية القرن 19م أنتجت سياقات تاريخية جديدة رسمت بدورها دينامية متحركة وسريعة في صناعة التقدم المادي لصالح البشرية، إلا أن الرهان الفكري الذي برز ولا يزال هو كيف يمكن إكساب هذا العقل الجمعي المتحرر المنتج للتقدم البشري في ميادين متعددة القدرة على تجديد قيمه ومقارباته التي يجب أن تأخذ آفاق المعنى والاجتماع الإنساني كمحددات بعين الاعتبار في أي مسار تقدمي يمكن رسمه؟! وذلك ليتأسس عمليا وعي جماعي بأهمية التقدم كفعل تاريخي نحو الأمام حسب ما يستنبط من أحاديث عيسى مخلوف خلال هذه الندوة. ثانيا، نجد أن الحديث عن التقدم وعلاقة التأثير والتأثر التي يمكن أن يرسمها مع أنظمة السلط المتحركة في عالم اليوم وما تنتجه من خطابات برز كمساحة موضوعاتية أخرى حركت هي الأخرى النقاش العام للقاء، حيث نجد مثلا أن سلطة الإعلام الآن أصبحت تؤثر بشكل كبير في تشكيل منظور المتلقي للواقع عبر إنتاج خطابات يكون فيها ما وراء الخبر الصحفي هو المتحكم في الخبر ذاته ليصير هو المطلوب فهمه واستيعاب دلالاته الخفية الغير المعلنة والتي لا يمكن أن يتصدر للقيام بها هذا الإعلامي أو ذاك دونما الارتكاز على خلفية ثقافية رصينة تسمح بإنتاج قراءة أنتربولوجية واعية للخبر الصحفي بعيدا عن سرديات مستهلكة يتم إنتاجها في الغالب تحت تأثير سلطة المال والفاعل السياسي، لتحقيق أجندة نفعية لأطراف معينة محركها هو الرغبة في توسيع النفوذ والهيمنة والإقصاء للآخر بشكل ينزاح بالمتلقي الجمعي للخطاب الإعلامي عن المعنى الحضاري المنشود لفعل التقدم (من حديث تفاعلي لعيسى مخلوف مع الأستاذ الإعلامي والكاتب أحمد طنيش). في حين أن الخطاب السياسي هو الآخر لا يعدو على الأقل داخل المشهد العربي الإسلامي، يؤثر سلبا في حالات مجتمعية كثيرة على بلوغ ما نسميه تقدما على مستوى الممارسة الجمعية خصوصا في ظل توظيف القاموس الديني لإنتاج سرديات سياسية متجاوزة وماضية إن صح القول تمنع عمليا من معانقة التقدم في معناه الحضاري الدينامي المتحرك، ليتأكد بذلك أن هذا النوع من الخطاب هو في أصله رغبة من لدن أصحابه تأكيد فكرة سياسية على واقع قائم دون الانطلاق مسبقا من هذا الأخير وتحليله والنظر إليه بعين نقدية لإنتاج المقاربة الملائمة والصحيحة لتحريك أي فعل تقدمي حقيقي( تفاعلا مع حوارية لأحد الطلبة الباحثين أسامة وعيسى مخلوف). ثالثا، يبدو أن البحث في راهنية التقدم اليوم وما يطرحه من تحديات جديدة على المجتمع العالمي قد احتل بدوره حيزا موضوعاتيا في نقاشات هذا اللقاء الفكري، خصوصا إذا ما انتبهنا إلى أن سياقات تاريخية معينة مكنت المجتمع العالمي من بلوغ مستويات عالية من التقدم بما يحيل عليه من ثورات تقنية واقتصادية وتكنولوجية سواء في القرن 19 أو بداية القرن 20م، لكن في نفس الآن رافق هذا المسمى تقدما اندلاع حروب كونية يظل أفقها مفتوح على التكرار نحو اللانهاية بما سيجبر الإنسان على النكوص من حالة الثقافة إلى والعودة حالة الطبيعة في شكلها البدائي الأسطوري، حينما تنمحي عمليا كل أداة لممارسة العنف، وهو ما يجعل من طرح السؤال عن أي تقدم نتحدث؟ حاجة وجودية لم ولن تنتهي صلاحيتها (تفاعلا مع حديث لعيسى مخلوف). إلا أنه ومن منظور آخر فمحاولة نقد التقدم الحاصل في ميادين متعددة وتحجيم حقيقة تحققه لا يعدو أن يكون منبعثا من قراءة ايديولوجية ضيقة لمخلوف، أغفلت إلى حد ما الشرط الزمني وطبيعة أن يحمل التقدم وكل ابتكار جديد معه دائما ما هو إيجابي وما هو سلبي داخل سياقه المنتج له، وهو ما بدى أن نقاشه يحتاج درسا أكاديميا أكثر شمولية وتخصص وليس لحظة سجال فكري هدفها هو تحريك النقاش عبر التقاط واقع حال التقدم الحاصل الآن في العالم وما يدل عليه من دلالات، في حين أن الأمل يظل قائما في تحقق مسارات تقدمية ناجحة ومرغوب فيها (من حديث تفاعلي ليوسف الزيات أستاذ التاريخ بنفس الكلية وعيسى مخلوف). وحقيقة يصعب إغفال ما للفعل الثقافي من أهمية في تأكيد والدفاع عن المعنى الحضاري للتقدم الإنساني في عالمنا اليوم، خصوصا في ظل تصاعد تيار الهيمنة الغربية الأمريكية التي ما انفكت عبر سلطة القوة والمال تبحث عن تفريغ المشهد الكوني من معناه الثقافي الأصيل الذي كان حاضرا خلال القرنين 19 وحتى نهاية القرن 20م وهو المعنى المراد انبعاثه من جديد في ممارستنا الجمعية لنجعل التقدم ينطق في الأول والأخير بالمعنى الإنساني ( تفاعلا مع جزء من حديث لعيسى مخلوف). وفي الأخير، نعتقد شخصيا أن عقد مزيد من اللقاءات الفكرية حول موضوع التقدم كفيل بتأصيل النقاش حول موضوع يستلزم انخراط مختلف الفاعلين من أساتذة وباحثين وإعلاميين واقتصاديين ومجتمع مدني قصد الوصول إلى إنتاج مقاربات متنوعة تسمح بتوليد قراءات متجددة ومتكاملة حول ماهية التقدم المنشود في عالمنا اليوم، بما يعني ذلك الأخذ في الحسبان الخصوصيات التاريخية للبيئة الثقافية والتركيبة الاجتماعية والواقع الاقتصادي والتمثلات الجمعية حول فكرة التقدم داخل المجتمعات البشرية بعين الاعتبار والفحص والدراسة، في أفق رسم تبصر معنى كوني للتقدم يقطع مع الأحادية في البناء والتفسير ومع ما درجت عليه تقليدانية الخطاب عند الذات العربية الإسلامية من اعتبار أن مركزية الغرب (الآخر) هي المنبع الواحد والوحيد الذي صنع فعل التقدم في تاريخ البشرية ككل. وبما يسمح لنا أيضا من تأصيل التقدم في ممارستنا الفردية الجماعية لا كرد فعل نهضوي يتم إنتاجه تحت تأثير ظرفيات معينة أو جعله خطابا استهلاكيا يخدم أجندة فاعلين معينين وإنما ليصير فعل التقدم إرادة جمعية واعية قادرة على تفجير طاقات الأفراد والجماعات شريطة ربطها بمنظومة قيمة أخلاقية تجعل من تقدمنا العالمي المنشود ذا معنى حضاري أصيل وخادم لوجودنا الإنساني ككل.