الألباب المغربية/ محمد خلاف
تعيش بعض المهن والحرف وضعا صعبا ينذر بانقراضها بسبب التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها المجتمع المغربي، خاصة منها التي تتعلق بـ”المكننة” أي ولوج الآلات لتحل مكان الإنسان في بعض المهن، الشيء الذي يفسر قلة مزاولتها وعدم الإقبال عليها،
ويعيش أصحاب هذه المهن المهمشة وغيرها معاناة اجتماعية ومادية عميقة بسبب قلة مداخيلها ومحدودية آفاقها، لهذا فهم غالبا ما يلجئون إلى التعويض عن ذلك بمزاولة حرف أخرى تساعدهم على الاستمرار في الحياة وتحقيق الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم. ومن هذه المهن نجد مهنة الإسكافي التي لها علاقة دائمة مع أحذية الناس، فالإسكافي لا يكاد يرفع رأسه من على الحذاء، وهو يمارس مهنة تقليدية صارت غير ذات شأن سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي والاعتباري، بالرغم من شرف هذه الحرفة التي تعلم الصبر والحكمة لمزاوليها.
“الخراز” أو”الكوردوني” أو الاسكافي هي مسميات مختلفة لمهنة الذي يستخرج رزقه من إصلاح ما أفسده الدهر ويداوي الأعطاب بالمطرقة والسندان والمسامير.
هي ليست مصدرا للثراء بل حرفة الفقراء للعيش بكفاف وستر عيوب الزمان… هذه الحرفة لا تتطلب شهادة جامعية أوخبرة طويلة بل مجرد معرفة بسيطة لتقنية ترقيع النعال والأحذية. ويظل الخراز يومه بين أحذية الزبائن المكدسة ولوازم العمل، ويتحلى الكردان بكثـير من الصبر والثبات والبساطة وطيبة الخاطر، فمهنة “الكوردوني” لا تخلو من متاعب كباقي الحرف، وهي حرفة كانت كافية لفتح بيت وتأسيس عائلة… بعدما كانت مهنة الإسكافي حكرا على الأميين والفقراء لعقود، ولج عالمها اليوم شباب في مقتبل العمر ووجدوا في هذه الحرفة مكسبا ماديا ولو يسيرا يغنيهم عن البطالة والفراغ، لكن الأكيد ان ممارسة هذه الحرفة يتطلب قدرا معينا من الثقافة وحسن التواصل مع الزبناء ..
الإسكافي فقد اليوم الكثير من رزقه وتراجع مدخوله بعدما دخلت السوق بضائع رخيصة الثمن وقليلة الجودة وخاصة منها السلع الصينية التي لا تقوى على الصمود بسبب رداءة المواد الأولية المصنوعة منها. ولم يمنع كساد المهنة في السنين الأخيرة من مواصلة الإسكافي لدربه، ففي صباح كل يوم تراه حاضرا في محله يعمل بهمة ونشاط، ولديه من الصبر والعزيمة والإرادة ما يكفي لمواجهة أعباء الحياة، حيث يقوم بعض الخرازة بالإضافة إلى تصليح الأحذية بصناعة النعال المختلفة الأشكال فيشتري الجلد وباقي اللوازم ويقوم بتركيبها، إلى أن ارتفاع اسعار المواد الأولية وعزوف الزبناء عن المنتوج المحلي أثر على وضعيتهم وساهم في تراجع مدخولهم اليومي…..
بمرارة إكراهات مهنة في طريقها للاندثار، أصبح أصحاب هذه الحرفة يواجهون الإهمال وانعدام التكوين ومنافسة المنتوج الصيني بالرغم من أنها تمثل واجهة مشرقة للتراث التقليدي، حيث أنها إضافة وقيمة لمنتوج الحرف التقليدية بشكل عام وضمان استمراريتها…..
تجده أمام سندانه القديم وصندوقه الحديدي بمحتوياته البسيطة من مقص ومسامير وغراء وبعض قطع الجلد التي يستخدمها في إصلاح الأحذية يجلس بوزرته الزرقاء على كرسي خشبي يحرص دوما على سمعته الطيبة بين زبناء السوق، رفيقه كوب من الشاي الذي يعده بنفسه، معاملته مع الزبناء تختلف من شخص إلى آخر، فبعضهم يحصل منه على مقابل بسيط اعتبارا لظروفه الاجتماعية، والبعض الآخر يطلب منه مقابلا معقولا” وفي بعض الأحيان لا يأخذ تعويضا لبساطة ما، وناذرا ما يختلف معك إسكافي في الثمن، فهم جميعا طيبون ومسالمون وقليلا ما يغضبون، فغضبهم وحقدهم على هذا الواقع القاسي يدفنونه في دق المسامير وانتشاء الكولا كرها وقهرا … تجد (الكردانة) في صفوف كلها علاقات طيبة. يحرصون على تنظيف الدكان الصغير و ترتيبه، ثم يبدأ الكردان يومه بمصافحة الأحذية الممزقة… ورسم أحلامه ويداه لا تفارقان المطرقة والسندان وأدواته المعدنية وجلوده مختلفة الأحجام والألوان.
ومع توسع الأسواق المحلية والعالمية وتنوع المنتجات الجلدية الصناعية وتوفرها بجميع الأنواع وبأرخص الأثمان، بدأت مهنة الخرازة تنقرض، وبقي بعض من امتهنوها يصارعون الزمن للبقاء. تنشط حرفة الخرازة بجميع مدن المغرب، وهي من المهن العريقة، التي تعيل الآلاف من العائلات بالمغرب، إذ تشغل رجالا وشبابا خبروا طريقة التعامل مع المطرقة والمسمار و”اللصاق” من أجل إصلاح جميع أنواع الأحذية خصوصا تلك المصنوعة من الجلد الأصيل.
المهنة لم تعد تتمتع بذلك البريق الذي كان يميزها في الماضي القريب والبعيد. وأصبحت مهددة بالانقراض حيث أن سلع الصين ذات الجودة الضعيفة جدا والثمن الرخيص، هي السبب في تهديد الحرفة بالانقراض. حيث يعمل (الشينوا)على تقليد جميع المنتوجات المغربية والغربية من أحذية عادية ورياضية. و امتد هذا التقليد أيضا إلى السلع العريقة المغربية التراثية مثل “البلغة والشربيل”. حيث قبل دخول سلع الصين للمغرب كانت حرفة الخرازة تشهد رواجا مهما. تناقص تقريبا بنسبة 60 في المائة.كما انصراف بعض المستهلكين لشراء حذاء أو بلغة صينية الصنع بمبلغ رخيص، قد يصل إلى ثمن إصلاح الخراز لمنتوج مغربي أو منتوج جديد أو مستعمل قادم من أوروبا التي تشهد رواجا في المغرب،لكن هناك زبناء واعون بجودة الأحذية حتى لو وجدوا حذاء صيني الصنع ب 50 درهما لن يستغني عن أحذيتهم القديمة، لأنه يعلمون جيدا أنها صحية وذا جودة عالية وتصميم ممتاز، وحيث تجد بلغة مغربية إصلاحها يكلف مابين 20 إلى 30 درهم حسب نوعية المواد. في المقابل تجد في السوق المغربية بلغة صينية الصنع ثمنها 20 درهم أو 25 درهم. ….
لتبقى مهنة الخراز بين النسيان و المستقبل الغامض، وهي
مهنة لا تجلب المال والشهرة.. لكنها تجلب الوقار.
الإسكافي أو الخراز بالرغم من قدم مهنته وأصالتها وانخراطها المباشر في دائرة المهن التقليدية الواجب الإهتمام بها .. فإن كل هذا المجد التاريخي والمهني لم يجلب لصاحبه إلا بؤسا متواصلا وتقهقرا مطردا نحو أدنى درجات السلم الإجتماعي.
تعالت في جميع الآفاق صيحات التغيير.. ومازال الإسكافي قابعا في مكانه يرد على تحايا المارة، وينتظر رجلا خانه سباطه ففتح فمه، أو شابة فقدت كعبها العالي.. لسبب من الأسباب، أو أحدهم ممن ضاقت به السبل فلم يجد إلى شراء حذاء جديد سبيلا فقرر أن يثقل كاهل حذائه المثقوب بكيلوغرامات أخرى من كولا 15\12 ومسامير 10…