الألباب المغربية/ أحمد زعيم
يُعد إقليم الفقيه بن صالح، التابع لجهة بني ملال خنيفرة بوسط المملكة، من الأقاليم التي عُرفت تاريخيا بخصوبة أراضيها وتنوع مواردها الطبيعية والفلاحية، إلى جانب موقعه الجغرافي الإستراتيجي وثرائه الفوسفاطي، فضلا عن كون الجالية المقيمة بالخارج تشكل ركيزة اقتصادية أساسية من خلال تحويلاتها المالية التي تمثل مصدر دخل رئيسي لعدد كبير من الأسر. غير أن هذا الإزدهار الطبيعي لم ينعكس بالشكل المطلوب على واقع التنمية المحلية، إذ لا تزال مجموعة من المشاريع البنيوية والخدمات العمومية في حالة تعثر أو تأخر أو غياب تام، سواء في مجالات التعليم والصحة والماء والكهرباء أو البنية التحتية، مما جعل الإقليم يعيش مفارقة صارخة بين الإمكانات المتوفرة والنتائج المحققة.
ويشهد النشاط الفلاحي تراجعا ملحوظا بسبب توالي سنوات الجفاف وندرة مياه السقي، وتحويل جزء من الموارد المائية لأغراض صناعية وإنتاجية أخرى، ما تسبب في تضرر الفلاحين الصغار وتقلص المداخيل الزراعية، ودفع العديد منهم إلى الهجرة نحو المدن أو الخارج، بينما استمر بعض كبار الفلاحين والمنتخبين والأعيان في إستغلال الآبار الجوفية لسقي الضيعات الفلاحية الكبرى، الأمر الذي ساهم في إستنزاف الفرشة المائية بشكل مقلق. وفي ظل هذه المتغيرات، تعتمد فئات واسعة من السكان على الدعم العائلي أو تحويلات الجالية لتغطية تكاليف المعيشة وفواتير الماء والكهرباء، في غياب حلول تنموية مستدامة تعيد الإعتبار للفلاح الصغير وتحقق عدالة مائية ومجالية.
وفي موازاة هذه التحديات الإقتصادية، تتجدد النقاشات حول تدبير عدد من الملفات الحساسة مثل الأراضي السلالية وإستعمالات الملك العام، خاصة مع التوسع العمراني المتزايد بالمدن وتنامي الطلب على السكن. كما تُثار تساؤلات بشأن طرق تدبير بعض الصفقات العمومية المرتبطة بتعبيد الطرق أو تزويد الأحياء بالماء والكهرباء، وهدر المال العام في المهرجانات والملتقيات والإطعام والإستقبال والسيارات الرسمية..، في ظل مطالب متكررة بتعزيز الشفافية والمساءلة وترشيد النفقات العمومية. ورغم فتح تحقيقات في عدد من الملفات خلال السنوات الأخيرة، إلا أن نتائجها ظلت محدودة وغامضة، ما غذى شعورا عاما بعدم الوضوح في مآلات المشاريع المتوقفة والمتعثرة، وبروز مظاهر توسع إسمنتي غير متوازن وانتشار ضيعات فلاحية كبرى تستفيد من الإمتيازات وتستنزف الفرشة المائية وتُعمق الفوارق المجالية وتدفع الفلاحين الصغار إلى الهجرة، فيما يغامر شباب الإقليم بحياتهم في قوارب الموت بحثا عن العيش الكريم.
ومع إقتراب كل محطة إنتخابية، يشهد الإقليم حركية ميدانية لافتة تتزامن مع إطلاق أو تسريع بعض المشاريع المتوقفة، وهي دينامية يعتبرها متتبعون ضرورية، لكنها في الوقت ذاته تستغل أحيانا لأغراض إنتخابية أكثر منها تنموية. كما تسجل ممارسات ترتبط بإستعمال النفوذ والمال والعلاقات القبلية في العملية الإنتخابية، مما يجعل المنافسة غير متكافئة ويضعف ثقة المواطن في جدوى المشاركة السياسية. وهنا يُطرح تساؤل مشروع حول مدى فعالية تدخل الدولة، وخصوصا وزارة الداخلية، في مراقبة سير العمليات الإنتخابية ومعاقبة المتورطين في استغلال المال والنفوذ، أو الداعمين لهم ممن يستغلون هشاشة الوضع الإجتماعي وضعف الوعي الانتخابي لتحقيق مكاسب ظرفية.
ويجمع عدد من الحقوقيين والفاعلين المدنيين على أن العزوف الإنتخابي أصبح ظاهرة مقلقة داخل الإقليم، خاصة في صفوف الشباب والمثقفين، نتيجة فقدان الثقة في فعالية المؤسسات المحلية وضعف التواصل بين المنتخبين والمواطنين. كما تؤكد التجارب الإنتخابية المتتالية أن الوعي الإنتخابي لا يزال في حاجة إلى ترسيخ ثقافة سياسية جديدة تقوم على الإختيار العقلاني للمسؤولين بناء على الكفاءة والبرنامج لا على الولاء أو القرابة أو المال، بعد أن تحولت التمثيليات الإنتخابية والمناصب العمومية في بعض الجماعات إلى إرث عائلي تتوارثه الأجيال، فباتت بعض العائلات تحتكر المشهد المحلي منذ عقود، وكأن الزمن توقف عند حدودها.
وأمام هذا الواقع، أصبحت الأحزاب تتهافت على تزكية الأسماء النافذة وأصحاب المال والوجاهة دون إعتبار للمصداقية أو الكفاءة، مما جعل المال هو المرجعية الأولى في تحديد خريطة الإستحقاقات، وليس البرامج أو الكفاءات. ونتيجة لذلك، اختار كثير من الشباب والمثقفين العزوف عن المشاركة، معتبرين أن الإنتخابات لم تعد وسيلة للتغيير، بل آلية لإعادة إنتاج نفس الوجوه التي فقدت ثقة المواطن ولم تعد قادرة على تقديم حلول واقعية لمعاناته اليومية.
ويشير مراقبون إلى أن إعادة بناء الثقة تقتضي تفعيلا جديا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وإعتماد مقاربات تشاركية تضمن العدالة المجالية وتكافؤ الفرص بين الجماعات الترابية. فبالرغم من الإمكانات البشرية والطبيعية التي يزخر بها الإقليم، لا تزال مؤشرات التنمية دون المستوى المطلوب، في ظل غياب نموذج تدبيري فعال يقوم على الحكامة والشفافية والتخطيط المتوازن.
وفي خضم هذه التحديات، يأتي القرار الملكي بالمصادقة على مشروع القانون التنظيمي الجديد لمجلس النواب كرسالة قوية لإعادة الثقة في المؤسسات وتعزيز تخليق الحياة السياسية، عبر تحصين الولوج إلى المؤسسة التشريعية أمام المتورطين في خروقات انتخابية، وفتح المجال أمام جيل جديد من الشباب دون 35 سنة من خلال دعم مالي يغطي 75% من مصاريف الحملات الإنتخابية، إلى جانب تخصيص الدوائر الجهوية للنساء، في خطوة تهدف إلى تجديد النخب السياسية على أسس الكفاءة والمصداقية والشفافية.
كما خصص مشروع قانون المالية لسنة 2026 اهتماما خاصا لقطاعي الصحة والتعليم عبر رصد ميزانية ضخمة بلغت 140 مليار درهم وخلق 27 ألف منصب مالي جديد، تشمل إفتتاح مستشفيات جامعية بأكادير والعيون وإستكمال بناء مستشفى ابن سينا بالرباط، إلى جانب تأهيل تسعين مستشفى عبر المملكة وتسريع إصلاح المنظومة التعليمية من خلال تعميم التعليم الأولي وتحسين جودة التمدرس.
ورغم أهمية هذه الإجراءات، يظل السؤال قائما: هل تكون هذه الخطوات بداية تحول حقيقي في المشهد المحلي، يعيد الثقة للمواطنين ويفعل فعلا مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ويضع حدا لزواج المال بالسلطة الذي يعرقل التنمية ويقبر كل مبادرة إصلاحية؟ وفي نفس السياق عبر مؤخرا رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام محمد الغلوسي عن قلقه قائلا:
“قال الناطق الرسمي باسم الحكومة إن الفساد يجب محاربته بالقانون، لكنه نسي أن يقول إن حكومة زواج المال والسلطة أقبرت كل القوانين التي يمكن أن تساهم في محاربة الفساد، من قبيل تجريم الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح، وقانون التصريح الإجباري بالممتلكات، وحماية الموظفين المبلغين عن الفساد، وقانون احتلال الملك العمومي، وتمرير المادة 3 من قانون المسطرة الجنائية.”
ويحذر الغلوسي من أن سيطرة المال وعلاقات القوة والنفوذ على الحياة العامة تُعيد إنتاج ما يشبه “المافيات المحلية” التي اخترقت المؤسسات وأفرغت السياسة من معناها، ودفعت المواطنين إلى فقدان الأمل والثقة في الإصلاح. فبينما يظل اللصوص أحرارا دون عقاب، يُزج بالبسطاء في السجون، وتستمر القرى والمدن في مواجهة البؤس والبطالة والتفاوتات المجالية، لتبقى التنمية حلما مؤجلا ومواطنة ناقصة في إقليم اسمه الفقيه بن صالح… من أرض الخيرات إلى إقليم الانتظارات.