الألباب المغربية/ عزيز لعويسي
في خضم احتفالات الشعب المغربي قاطبة بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة، واعتبارا لما تمر منه قضية الوحدة الترابية من منعطف حاسم، واستحضارا للتطورات الحاسمة التي حملها القرار الأممي رقم 2797/2025، الذي كان موضوعا للخطاب الملكي الموجه إلى الأمة بتاريخ 31 أكتوبر 2025، وفي ضوء ما ورد في بلاغ الديوان الملكي الصادر بتاريخ 04 نونبر 2025، والذي تم الإعلان من خلاله، على القرار الملكي القاضي بجعل يوم 31 أكتوبر من كل سنة، عيدا وطنيا تحت مسمى “عيد الوحدة”، كمناسبة وطنية جامعة “للتعبير عن التشبث بالمقدسات الوطنية للمملكة وحقوقها المشروعة”، وأمام دخول ملف النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، مرحلة الطي النهائي بعد نصف قرن من الإجهاد الاقتصادي والمالي، والمعارك الدبلوماسية حامية الوطيس، ضد خصوم وأعداء الوحدة الترابية؛
وتأسيسا على كل هذه الاعتبارات وغيرها، فما تحقق من مكتسبات دبلوماسية وقانونية حاسمة في ملف الصحراء المغربية، يقتضي استحضار كل ما راكمه المغرب من تراث أرشيفي، في معركة الدفاع عن الوحدة والسيادة، طيلة نصف قرن من الزمن، وتحديدا منذ أن أعلن الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، عن قرار المسيرة الخضراء بتاريخ 16 أكتوبر 1975، بعد التوصل بالرأي الاستشاري الإيجابي لمحكمة العدل الدولية، حتى تاريخ 31 أكتوبر 2025، تاريخ التصويت بالأغلبية على القرار التاريخي لمجلس الأمن الدولي، والعودة إلى أرشيف المسيرة الخضراء ليس من باب الترف الأرشيفي كما قد يعتقد البعض، ولا من زاوية التعامل مع أرشيفات يلزمها الجمع والحفظ، كغيرها من الأرشيفات العمومية، كما قد يظن البعض الآخر، ولكن لتحقيق أغراض وغايات ومقاصد متعددة الزوايا، يمكن بسطها على النحو التالي:
- الكم الهائل للأرشيفات المنتجة طيلة نصف قرن من النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، مما يجعلها تشكل تراثا نضاليا حقيقيا، وإرثا مشتركا لكل المغاربة، يستوجب العناية والاهتمام والاعتبار؛
- تعدد مصادر هذه الأرشيفات، والتي تتنوع بين الخطب الملكية والأرشيف الدبلوماسي، وأرشيفات البرلمان والقطاعات الوزارية المعنية بالملف، والأحزاب السياسية، وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي حول الصحراء، وقرارات الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي، والاتفاقيات والشراكات ذات الصلة وغيرها،مما يقتضي التحــرك في اتجاه وضع استراتيجية أرشيفية واضحة، لجمع هذه الأرشيفات المركونة في عدد من الإدارات، وتنظيمها وحفظها، حماية لهذا الإرث الوثائقي المعتبر، الذي يعد جزء لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية المغربية، في بعدها النضالي والتحرري؛
- الغاية المثلى لا تتوقف فقط، عند حدود “الجمع” و”الحفظ”، بل لابد أن تتجه نحو “التثمين”، بالتعريف بهذا التراث الأرشيفي، وعرض محتوياته للعموم، في شكل إصدارات ومعارض للصور وغيرها من الوسائل التواصلية والإشعاعية، وإدراجه في صلب المناهج والبرامـــج الدراسية، خدمة للتربية على المواطنة، وتعزيزا للتشبث بالمقدسات الوطنية، وضمانا للحق في المعلومة، وخدمة لأغراض البحث العلمي؛
- القيمة التاريخية والتراثية والعلمية لهذا التراث الأرشيفي النوعي، ودوره في تطعيم وإغناء الذاكرة الجمعية المغربية، كإرث مشترك لكل المغاربة، جمعه وحفظه وتثمينه، قد يرتقي إلى مستوى الواجب الوطني؛
وفي هذا الإطار، لا يمكن البتة، إثارة التراث الأرشيفي للمسيرة الخضراء، دون توجيــه البوصلة نحو مؤسسة أرشيف المغرب، باعتبارها السلطة الوصية على الأرشيف العمومي، وهي مدعـــــوة إلى الانخراط في روح الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، وصلب المنعطف الحاسم الذي تمر منه قضية الوحدة الترابية للمملكة، عقب القرار التاريخي لمجلس الأمن الدولي، وذلك بوضع المسألة الأرشيفية ذات الصلة بالمسيرة الخضراء، في دائرة الاهتمام والاعتبار، في ضوء ما أناطه بها المشرع، من مهام وصلاحيات، تتقاطع في صيانة التراث الأرشيفي الوطني والعمل على النهوض به…، والمطلوب اليوم من المؤسسة كسلطة أرشيف، وضع “استراتيجية عمل”، دافعة في اتجاه جمع شتات كل ما أنتج وكون من تراث أرشيفي، حول المسيرة الخضراء المظفرة طيلة خمسين سنة من النضال الدبلوماسي، دفاعا عن الوحدة الترابيــــة للمملكة، بما يساعد على تكوين “رصيد أرشيفي” محفوظ بأرشيف المغرب، تحت مسمى “رصيد المسيرة الخضراء” مثلا؛
دخول “أرشيف المغرب” على خط تراث المسيرة الخضراء، بقدر ما تقتضيه ضـرورات قانونية وإدارية صرفة، بصفتها سلطة أرشيف، تتحمل مسؤوليات تدبير وصيانة التراث الأرشيفي الوطني، بقدر ما تفرضه ضرورات أخرى استراتيجية، يرتبط بعضها بالطابع الاستراتيجي للمؤسسة، مما يضعها أمام تحدي مسايرة التوجهات الاستراتيجية للدولة، والانخراط الذي لا محيد عنه في أية خطوة أو مبادرة مبدعة وخلاقة، من شأنها خدمة هذا الوضع الاعتباري وتزكيته، فيما يرتبط البعض الآخر بالبعد الاستراتيجي لتراث المسيرة الخضراء، لما لجمعه وحفظه وتثمينه، من دور في حفظ الذاكرة الجمعية وصون تراث الأمة، وتعزيز الارتباط بثوابت الأمة الجامعة، وخدمة التربية على القيم الوطنية، وضمان الحق في المعلومة، لوضع المغاربة قاطبة والأجيال اللاحقة، في صلب ما جرى في قضية الصحراء على امتداد نصف قرن من الزمن، فضلا عن إمكانية وضع هذا الإرث الوثائقي، تحت مجهر المكاشفة ومنضور التقييم والمساءلة، بالشكل الذي يسمح بتحسين الأداء السياسي والدبلوماسي، خاصة وأن مسلسل استكمال الوحدة الترابية لم تكتمل حلقاته بعد؛
الحديث عن رصيد المسيرة الخضراء لا يستقيم دون استحضار المستندات المحفوظة في الأرشيف الإسباني لقيمتها القانونية والسياسية والتاريخية والعلمية، بالنظر إلى الماضي الاستعماري الإسباني بالمنطقة، وفي هذا الإطار، نذكر بمصادقة الحكومة الإسبانية قبل أشهر على مشروع قانون جديد للمعلومات السرية، من شأنه أن يلغي ”قانونَ أسرار الدولة” المعتمد منذ سنة 1968، على عهد الجنرال فرانسيسكو فرانكو، في خطوة تشريعية أرشيفية، تروم بعد المصادقة البرلمانية، رفع السرية عن وثائق من شأنها ليس فقط، كشف النقاب عن محطات وأحداث مفصلية في التاريخ الإسباني المعاصر والراهن، بل ورفع السرية عن وثائق تخص العلاقات المغربية الإسبانية، سيما ما يتعلق منها، بقضية الصحراء المغربية، بعد الانسحاب الإسباني منها، والذي تزامن وقتها، مع وفاة الجنرال فرانكو وإعلانِ الملك الراحل الحسن الثاني تنظيم المسيرة الخضراء (1975) من أجل استرجاع الأقاليم الجنوبية، وممارسات نظام فرانكو الديكتاتوري في الأقاليم الجنوبية للمملكة، وما أعقب الانسحاب الإسباني، من تطورات ساهمت في انعطاف الملف إلى مآلاته الراهنـة؛
وأرشيف المغرب لابد وأن تستثمر ما يعيشه الأرشيف الإسباني من “مستجد أرشيفي” غير مسبوق، بفتح جبهة اتصال وتواصل مع الأرشيف الوطني الإسباني، استثمارا للشراكة المغربية الإسبانية، بالشكل الذي يدفع في اتجاه وضع اليد على الكثير من الوثائق الأرشيفية، التي من شأنها كشف جملة من الحقائق والمعطيات التي ظلت موضوع سرية، بشأن ملف النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية وأطرافه وامتداداته، أخذا بعين الاعتبار، ما تمر منه القضية المغربية الأولى من منعطف حاسم، عقب القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي، وما سيحمله من متغيرات وتحولات ذات صلة بتنزيل مخطط الحكم الذاتي، يصعب تدبيرها بشكل واقعي وتبصري، دون النظر في مرآة الأرشيف. وفي هذا الإطار، نرى أن جبهة مماثلة، وجب فتحها مع الجانب الفرنسي، فيما يتعلق بمسألة الصحراء الشرقية، التي تتحمل فيها الدولة الفرنسية المسؤولية القانونية والتاريخية، ووجب عليها، دعم الحقوق الترابية المشروعة للمغرب في المحـــافل الدولية، ورفع اليد عن الأرشيف الذي يثبت مغربية تلك المناطق الشرقية، المسروقة من المغرب عنوة، إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر؛
ونحن نفتح باب الأرشيف، في سياق ما يعيشه المغرب والمغاربة من مظاهر الفرحة والاعتزاز والتشبث بالمقدسات الوطنية، ومن مشاهد الوحدة ولم الشمل، احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، والفتح الدبلوماسي المبين عقب القرار الأممي المذكور، ندرك تمام الإدراك، أن الأرشيف هو أكثر من وثائق، تستوجب الجمع والمعالجة والحفظ، هو الذاكرة الجمعية والهوية المشتركة، والأسانيد الداعمة للحقوق المشروعة والموثقة لها، والعاكسة لتجارب الأمة المغربية وخبراتها في مجال الدفاع عن وحدة الأرض وسلامة التراب، هو رسائل مفتوحة منقولة عبر الأجيال، دافعة نحو الوحدة الوطنية، ومحفزة على حماية بيضة الوطن من أن تطالها أيــــادي الطامعين والمتربصين والحاقدين، وممارسة حداثية، ذات صلة بجمع المعلومات وتنظيمها وحفظها وإتاحتها للعموم وفق الضوابط القانونية، واستثمارها، بما يساعد على تحسين الأداء السياسي والدبلوماسي، ورفع التحديات المرتبطة بالوحدة الترابية …
وعليه، فأرشيف المسيرة الخضراء، هو أرشيف “جامع” و”مانع”، يحتــاج اليوم، إلى خطوة، وربما إلى خطوات شجاعة من جانب “أرشيف المغرب”، بتنسيق مع الجهات الفاعلة في الأرشيف، والمؤسسة في ظل ضيق ذات اليد، تحتاج إلى دعم سياسي ودبلوماسي وازن، من منطلق أن تراث المسيرة الخضراء، هو مسؤولية دولة ومسؤولية حكومة وبرلمان، ومسؤولية أحزاب سياسية، ومسؤولية كل شخص مغربي بحوزته وثائق أرشيفية ذات صلة بهذه الملحمة النضالية المجيدة. على أمل أن تنخرط المؤسسة الأرشيفية في هذا الورش الأرشيفي الوطني الكبيــــر، وفي انخراطها، إسهام في خدمة الذاكرة النضالية الوطنية، وحفظ للحقوق الترابية المشروعة، وتوثيق لتجارب الأمة المغربية، وتعزيز للوحدة الوطنية والثوابت الجامعة للأمة المغربية؛
مع ضرورة الإشارة إلى أن “أرشيف المغرب”، وعلاوة على مهامها وصلاحياتها الأرشيفية الخالصة، فهي مطالبة بتأمل تطورات ملف الصحراء المغربية، واستحضار متغير “الحكم الذاتي” قيد التحيين، في أفق التنزيل بالأقاليم الجنوبية، من أجل التفكير في الصيغ الممكنة لمسايرة هذا المسار، في الشق المتعلق بالأرشيف، ومدى القدرة على استعجــال فتح بعض الأوراش الأرشيفية، من قبيل إحداث مؤسسات جهوية لأرشيف المغرب، وشرطة الأرشيف، بما في ذلك، تحيين القانون المنظم للأرشيف، وإعادة هندسة هيكلة المؤسسة، لتكون في مستوى الرهانات والتحديات الأرشيفية المطروحة…