الألباب المغربية/ ذ. محمد خلاف
بين غربة الروح؛ وغربة الجسد؛ ومع تجلي الجائحة؛ كابد أبناء “لاربعا” خارج الحدود؛ غربة بمرارة الحنظل أو أشد ؛ وصقيع وحشة موحشة لفراق هواء وتراب وسماء المدينة؛ وملامح الوجوه؛ وروائح الأمكنة؛ فالإنتماء إلى المدينة كما الإنتماء إلى الأم فلا فرق بينهما؛ إذ يحدث للحياة أن تهدي إليك الشيء الذي تحبه أكثر في المكان الذي تكرهه أكثر. فلطالما مذهلة هذه الحياة بمنطقها غير المتوقع. أرواح أبناء “لاربعا” مسجونة في منتصف الحرية بحب أزلي للمدينة؛ يرون الأمكنة متشابهة هناك؛ فكل الأشياء التي فقدوها “بلاربعا” التي غادروها، والأشخاص الذين اقتلعوا منهم، غيابهم لا يعني اختفاءهم. إنهم يتحرّكون في أعصاب نهايات أطرافهم المبتورة، يعيشون فيهم كما يعيش وطن.. كما تعيش امرأة.. كما يعيش صديق رحل.. ولا أحد غير الأحبة يراهم. وفي الغربة تسكن “لاربعا” أولادها بحب جارف، فيزدادوا صقيع أطرافهم وينفضحون بهم برداً؛ في نوستالجيا ميتة تنتصب أمامهم كلها معاني حياتهم الجميلة الغابرة، كأنَّها مرآة ضئيلة ينظرون فيها طويلاً فلا يروا سِوَى أوجُهِ السّنينَ الشاحبة وملامحِ الآمالِ والأحلامِ والأماني المتجعِّدة كملامِحِ الشيوخ؛ مع بداية بوادر فرج قريب لزيارة الوطن والمدينة؛ حرقتنا لافحة إلى النائي والغريب من أبناء مدينتي؛ عبق طيفهم يلوح بحضورهم القريب في كل أركان المدينة؛ شوقنا لهم شوق للذاكرة والفصول؛ ولعنة لكورونا الخبيث؛ غابوا قدرا؛ واشتقنا دمعا لرؤية أحدث السيارات الفارهة تجوب شارعا وشوارعا ب”لاربعا”؛ إشتقنا إلى أفخم ماركات الألبسة والساعات؛ إشتقنا إلى صخب الأعراس في كل النواحي؛ واشتاق اقتصاد المدينة وتجارتها لسخاء المهاجرين من أولادها على جميع الأصعدة؛ اشتقنا إلى صخبهم الجميل؛ اشتقنا إلى سماع كلمات إيطالية وإسبانية مشتتة هنا وهناك؛ لقاءنا القريب بهم سيكون كرائحة الأرض بعد المطر؛ بعدما تكالب الدمع والإنتظار عن أمهات انتظرت أكبادها شوقا أخرسا كعصفور حائر؛ شطره الشوق إلى ذاكرة وبين؛ فالغربة ليست محطة.. إنها قاطرة تركبُها حتى الوصول الأخير. قصاص الغربة يكمن في كونها تُنقص منك ما جئت تأخذ منها، بلد كلّما احتضنك إزداد الصقيع في داخلك، لأنها في كل ما تُعطيك تعيدك إلى حرمانك الأول. لذا تذهب نحو الغربة لتكتشف شيئاً… وإذ بك تنكشِف بإغترابك؛؛؛؛
فكل شيء بالمدينة يبتسم فرحا بقدومكم فأنتم لنا وللمدينة كضوء قمر؛ وسيل مطر وفوح زهر؛ فمرحبا عند سقوط قطرات الندى على الورود وأزهارها…