الألباب المغربية/ د. حسن شتاتو
تطرح قضية استعمال المبيدات الزراعية في المغرب، ولا سيما تلك المحظورة في الاتحاد الأوروبي، إشكالية معقّدة تتداخل فيها الجوانب الصحية والاقتصادية والتنظيمية. ومن أبرز هذه المواد المثيرة للجدل مبيد الكلوربيريفوس (Chlorpyrifos)، الذي حظرت المفوضية الأوروبية استخدامه منذ سنة 2020 بعد تقييم علمي خلص إلى خطورته على صحة الإنسان، وخاصة على نمو الجهاز العصبي لدى الأطفال.
في المقابل، لا تزال بعض الدول النامية تواجه تحديات في ضبط استعمال هذه المادة أو مراقبة بقاياها في السلع الفلاحية، مما يثير التساؤل حول مصير المنتجات غير المطابقة للمعايير الأوروبية: هل يتم إتلافها أم يعاد تسويقها في الأسواق المحلية؟
أولاً: ماهي الكلوربيريفوس وأضراره الصحية
ينتمي الكلوربيريفوس إلى مجموعة الفوسفور العضوي، وهي مبيدات حشرية تعمل على تعطيل إنزيم أسيتيل كولين إستراز في الجهاز العصبي، ما يؤدي إلى تراكم النواقل العصبية وحدوث اضطرابات عصبية خطيرة.
تشمل الأعراض الحادة للتسمم: الغثيان، والتقيؤ، والتشنجات، وصعوبة التنفس، وقد تؤدي في الحالات الشديدة إلى الوفاة.
أما التعرض المزمن، فقد أثبتت دراسات هيئة سلامة الأغذية الأوروبية (EFSA) وجود علاقة بين مستويات منخفضة من الكلوربيريفوس واضطرابات النمو العصبي والمعرفي لدى الأطفال، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى سحب تراخيصه نهائيًا منذ عام 2020.
ثانياً: واقع استعمال المبيدات في المغرب
يشهد القطاع الفلاحي المغربي توسعًا متسارعًا في استعمال المبيدات الكيميائية بفعل ضغط الإنتاج والتصدير.
ورغم وجود هيئة وطنية للسلامة الصحية (ONSSA) تضطلع بدور الرقابة والتحاليل المخبرية، فإن عدة تقارير ميدانية تشير إلى فجوات في التطبيق والمراقبة خصوصًا في الأسواق الداخلية والمزارع الصغيرة غير المنظمة.
فالمزارع المغربية كثيرًا ما تستخدم نفس المواد الكيماوية في المحاصيل الموجهة للتصدير والمحاصيل الموجهة للاستهلاك المحلي، مع اختلاف في مستوى الفحص والرقابة.
وتبرز المفارقة هنا: فبينما تُختبر السلع المصدّرة بدقة شديدة وفقًا للمعايير الأوروبية، قد تبقى المنتجات الموجهة للسوق الداخلي أقل خضوعًا للتحليل، مما يشكّل خطرًا صحيًا على المستهلك المغربي.
ثالثاً: التحديات في نظام الرقابة والتتبع
عندما ترفض السلطات الأوروبية أو البلجيكية شحنات من منتجات فلاحية بسبب تجاوز حدود المبيدات، تُمنح للمصدر ثلاثة خيارات قانونية:
- إعادة الشحنة إلى بلد المنشأ.
- إتلافها تحت إشراف السلطات المختصة.
- معالجتها لتقليل بقايا المبيدات إن أمكن.
لكن الإشكال الحقيقي يظهر عندما تُعاد الشحنات إلى بلد المصدر دون متابعة دقيقة، حيث قد تُطرح في السوق المحلية، مما يُعدّ خرقًا خطيرًا لقواعد السلامة الغذائية.
وهنا يبرز سؤال المسؤولية: من يتحمل تبعات هذا التساهل؟
هل هي مسؤولية المصدّر الذي يسوّق منتجات غير مطابقة؟ أم الهيئة الرقابية التي لا تمنع إعادة توزيعها داخليًا؟ أم المنظومة القانونية التي تسمح بمرونة مفرطة في المساءلة؟
رابعاً: الأبعاد الصحية والاقتصادية
يشكل استمرار استعمال الكلوربيريفوس وغيره من المبيدات عالية السمية تهديدًا مزدوجًا:
- تهديد صحي: بسبب التعرض المزمن لمتبقيات المبيدات في الخضر والفواكه.
- تهديد اقتصادي: لأن تكرار رفض الصادرات الزراعية المغربية من طرف دول الاتحاد الأوروبي يضعف ثقة المستهلك الدولي ويشوّه صورة المنتج الوطني.
وتؤكد البيانات الأوروبية (RASFF) أن عدداً من الشحنات الفلاحية القادمة من المغرب بين سنتي 2023 و2024 سُجلت فيها تجاوزات في بقايا المبيدات، بما فيها الكلوربيريفوس، ما يفرض مراجعة جذرية لمنظومة المراقبة الميدانية.
خامساً: نحو إستراتيجية وطنية للحد من المخاطر
من أجل حماية المستهلك المغربي وتعزيز تنافسية المنتوج الوطني، بات من الضروري:
- تحديث التشريعات الوطنية لتتوافق مع المعايير الأوروبية في ما يخص الحدود القصوى لبقايا المبيدات.
- فرض الشفافية والتتبع الرقمي في سلاسل الإنتاج والتوزيع لضمان معرفة مصدر كل منتوج ومساره.
- تعميم الفحص المخبري على المحاصيل الموجهة للسوق الداخلي بنفس صرامة الصادرات.
- تحفيز المزارعين على التحول إلى الزراعة العضوية أو المستدامة عبر الدعم التقني والمالي.
- تعزيز العقوبات ضد كل من يثبت تورطه في تسويق منتجات غير مطابقة أو في إعادة شحنات مرفوضة إلى الأسواق المحلية.
إن قضية الكلوربيريفوس ليست مجرد ملف تقني حول نوع من المبيدات، بل هي مرآة تعكس العلاقة بين السياسة الفلاحية والصحة العامة.
فسلامة المواطن يجب أن تكون المعيار الأسمى لأي منظومة إنتاج غذائي.
وإذا كان الاتحاد الأوروبي قد اتخذ موقفًا حازمًا بحظر هذه المادة لحماية أجياله القادمة، فالأجدر أن يتخذ المغرب الخطوات نفسها ليس فقط لتأمين أسواق التصدير، بل لحماية المستهلك المغربي أولاً.
