الألباب المغربية/ يونس المنصوري
الحمدُ لله، الذي جعل الإنسان خليفةً في الأرض، لا بفضل نسبٍ أو عائلةٍ عريقة، بل بعقله ويده، فرفع من يشاء بالجد، وخفض آخرين بكسلهم، وميز الخبيث من الطيب. فأين نحن الآن من ذلك؟
في زمننا، أصبحنا نشهد ظاهرةً غريبة، فقد صار “ابن فلان” يتبوأ المناصب من غير استحقاق، ولا كفاءة، بل بفضل لسانه الطويل، وعلاقاته العميقة. وصار الطريق إلى السلطة مفروشًا بالوساطات، لا بالجد والكدّ. فما كان للأصل أن يكون مقياسًا للقدرة، ولا كان للوراثة أن تحدّد المصير!
في السياسة، نجد الأمثلة واضحة على ذلك. فأيّ مجلسٍ من مجالس الحكومات لا تجد فيه “ابن العم” أو “ابن الأخ”؟ إن سُئلت عن الكفاءة، جاءك الجواب: “هو ابن فلان!” وكأنّ العمل الحقيقي قد أصبح محكومًا باسم العائلة، لا بنضوج الفكر، ولا برؤية جديدة. “فالسياسة” في هذه الحالة لم تعد رأيًا يُطرح، بل هويّة تُورث!
وفي الرياضة، أصبحنا نرى نجومًا لم يتعبوا يومًا في بناء موهبتهم، بل وُلدوا نجوماً بفضل آبائهم أو علاقاتهم. فلا مهارة تُحتسب، ولا جهد يُكافأ، بل يقتصر الأمر على من هو “ابن” من؟ فلا عجب أن يكون هناك لاعبٌ موهوب في الأحياء، لكن لا يُسمح له بالصعود إلى ساحة الملعب الكبير، لأنّه لا يحمل اسمًا “عائليًا” يفتح له الأبواب.
أما في الفنّ، فحدّث ولا حرج! فأبناء الفنانين أصبحوا يسيطرون على الشاشات، بغض النظر عن موهبتهم، في حين تُحرَم الأيادي الطيّبة التي لم تجد من يقدّرها. يكفي أن يكون المرء “ابن فنان”، حتى يصبح هو نجم الساحة، بغض النظر عن قدميه الثقيلة في مجال الفنّ. وهل رأيتم فنانًا أظهر موهبته إلا وأُسدلت أمامه سُبل النجاح؟ لا، فإن كان ليس من “أب نجم”، فليبحث عن الزاوية المظلمة!
وفي الإعلام، تَسلَّم المقالات من لا يملك قلمًا سليمًا. باتت الكتابة محكومة بالعلاقات، واحتاج الصحفيون إلى معارف أكثر من معرفتهم، حتى يسطعوا في سماء الإعلام. فالقلم في هذا العصر يُشترى، والميكروفون يُستأجر. وأصبح لِمن وُلد في جريدةٍ أن يكون مديرًا، رغم أنّه لا يعرف الفارق بين الخبر والتحقيق!
أما في الدين، فقد صار المنبر ساحةً للارتزاق، والعمامة تُستخدم كرمزٍ للسلطة السياسية، لا كأداة للهداية. فتجد من يُلقّن الناس درسًا في القيم، بينما هو لا يملك من العلم إلا بعض الكلمات التي تُقال بين العشاء والفجر. أين الفقيه الذي يمارس العلم، وأين الفهم العميق الذي نحتاجه؟
وأما الوطن، فقد أصبح الشابّ الحالم مجرد فقاعة، لا تصل إليه الفرص ما لم يكن له “ظهر” قويٌّ يسانده. فهذا هو الواقع، فأنت لا تحارب بقدراتك، بل بما تملك من علاقات. و”الصبر” هو الجواب، إذا لم يكن لديك حظ في “الواسطة”!
أما اليوم، فقد صرنا نسأل أنفسنا، ماذا يحدث؟ ما بالنا نُقيّم الناس بالأصل، وتضيع كفاءاتهم؟ ألسنا من المفترض أن نُقدّر العمل الجاد؟ أما آن الأوان أن نتوقف عن توزيع المناصب بناءً على الأنساب؟ ألا نعي أننا نحتاج إلى عقول تبني، لا إلى أسماء تستهلك؟
وختامًا، ليس كلّ ابنِ بطٍّ عوامًا، ولكن في زمننا، إذا كان “البطّ” الأكبر في الوزارة، فلا بأس أن يغرق الجميع في مياه القرارات الملوثة! بينما تبقى المواهب المخبأة في الزوايا، يتنقل فيها الورثة بلا أيّ جهد يذكر. والنتيجة؟ أن الشعب يغرق في بحر من الأوهام، بينما تتناثر على الشواطئ صور الفائزين الذين لا يجيدون السباحة!