عزيز لعويسي
جائحة كورونا التي حلت ضيفا ثقيلا على المغرب، أواخر مارس 2020، وما أعقبها من حجر صحي ومن تدابير وقائية واحترازية، أرخت بكل ثقلها وتأثيرها على الواقع السوسيواقتصادي والمعيشي، بعد توقف عجلة الكثير من الأنشطة المهنية والحرفية والتجارية والسياحية والخدماتية، بناء على ما اتخذته السلطات العامة من قرارات في إطار الحرب ضد فيروس كوفيد19، وكان من الطبيعي أن تساهم هذه الظروف الخاصة والاستثنائية في ارتفاع منسوب البطالة واتساع أحزمة الفقر والهشاشة والإقصاء، وبدون شك، ازداد الوضع المعيشي تعقيدا، في ظل ما أعقب عملية الخروج من الأزمة الوبائية، من اشتداد حمى الأسعار وارتفاع غير مسبوق في مستوى العيش، إلى درجة أن الأزمة الاجتماعية لم تبق حبيسة الفئات الفقيرة والمعوزة، بل امتدت تأثيراتها إلى الطبقة الوسطى التي ازدادت أوضاعها السوسيواقتصادية تأزما، في سياق اجتماعي صعب، غابت وتغيب فيه الحلول “المبدعة” و”الخلاقة”، التي من شأنها الإسهام في دعم القدرة الشرائية للمواطنين وصون “بيضة” السلم الاجتماعي.
وإذا كانت “الحاجة أم الاختراع” كما يقال، وتحت ضغط البطالة وصعوبات الولوج إلى سوق الشغل، مجموعة من المواطنين ومنهم شرائح واسعة من الشباب من ضحايا جائحة كورونا وتداعياتها، لم يجدوا من خيار، سوى الاعتماد على إمكانياتهم الخاصة، لخلق فرص شغل ذاتية تخلصهم من مخالب البطالة القاتلة، فبرزت في هذا الإطار مجموعة من الأنشطة الخدماتية التي انتشرت في الكثير من المدن، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أنشطة “المقاهي المتنقلة” التي باتت اليوم، أنشطة صاعدة، آخذة في التمدد والانتشار، على غرار الأنشطة المرتبطة بالوجبات السريعة.
وبقدر ما نثمن الشباب الذين بادروا إلى خلق فرص شغل ذاتية من هذا القبيل، وننوه بما يتمتعون به من روح المسؤولية والمبادرة ومن تملك ثقافة المشاريع، بقدر ما نطالب السلطات المختصة، بالانتباه إلى هذه الأنشطة المهنية والخدماتية الصاعدة، التي باتت واقعا لا محيد عنه، عبر إخضاعها لسلطة القانون، في إطار “رؤية قانونية استباقية”، تضع في الحسبان، ما يمكن أن تخلقه هذه المقاهي المتنقلة وغيرها من المشاريع الخدماتية المماثلة، من مظاهر العشوائية والفوضى داخل المجالات الحضرية، خاصة في ظل تكاثرها وامتدادها المجالي، وما يمكن أن تحدثه من أضرار مادية ومعنوية على أرباب المقاهي “الثابتة” التي تتحمل أعباء ضريبية وتساهم في إنعاش الشغل، وما قد تشكله من مساس بالسلامة الصحية للزبناء.
وعليه، واستحضارا للدور الفعال لهذه المشاريع الذاتية في تنمية الدخل، والنهوض بواقع التنمية البشرية، في سياق سوسيواقتصادي صعب، واعتبارا لأهميتها في امتصاص البطالة في أوساط الشباب، وتقديرا للمجهودات المتعددة الزوايا، التي ما فتئ يقوم بها الملك محمد السادس، في سبيل الرفع من مستوى التنمية البشرية خاصة في الأوساط الفقيرة والهشة، وأخذا بعين الاعتبار الرهانات المرتبطة بالنموذج التنموي، وبمسؤوليات الحكومة في دعم المقاولين الذاتيين ومواكبة حاملي المشاريع، ندعو عبر هذا المقال، السلطات المختصة من أجل التحرك لتقنين وتنظيم هذه المقاهي المتنقلة شأنها في ذلك شأن “المطاعم المتنقلة”، بما يضمن إدخالها إلى “القطاع المهيكل”، وتمكين أصحابها، من مناخ قانوني ملائم، يسمـح لهم بممارسة أنشطتهم، بعيدا عن طقوس “التضييق” أو “الاستفزاز” أو “الابتزاز”، ودون أن يؤثروا على أنشطة المقاهي “الثابتة” لا من قريب ولا من بعيد.
ونحن نوجه البوصلة كاملة نحو “المقاهي المتنقلة” التي باتت تلعب دور “مقاهي القرب”، لابد أن نستحضر ما باتت تعرفه الكثير من المجالات الحضرية، من مشاهد “العشوائية” و”الفوضى” و”الترامي على الملك العام” و”انتهاك سلطة القانون”، بدءا بانتشار الباعة المتجولين وباعة الرصيف، مرورا بتمدد أنشطة المطاعم المتنقلة، التي اكتسحت الكثير من الشوارع والطرقات، وانتهاء بجائحة الكلاب الضالة والبغال والحمير، التي باتت جزءا لايتجزأ من المنظر العام لمعظم المدن إن لم نقل كلها، بشكل كرس ويكرس مجالات حضرية بئيسة فاقدة لأدنى شروط الجاذبية والجمال والإشعاع، وهذه الظواهر المقلقة، تسائل الكثير من صناع القرار المحلي، الذين يتحملون المسؤولية كاملة، فيما آلت إليه المدن من بؤس وتراجع وانحطاط، ووجب على هؤلاء المسؤولين، تحمل مسؤولياتهم المواطنة واستحضار الضمير المهني، من أجل الانخراط في معركة تطهير المدن مما تعيشه من صور الفوضى والعشوائية، من أجل كسب رهانات مجالات حضرية أنيقة وجذابة، عاكسة لما يشهده المغرب من تحولات على جميع المستويات، وفي هذا الإطار، لا ندعي حرمان الناس من أرزاقها، بل نطالب بإدخال جميع الأنشطة “غير المهيكلة” إلى دائـرة “الهيكلة” و”النظام” و”القانون”…
ونختم بدعوة القائمين على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، إلى استحضار مشاريع “المقاهي المتنقلة” التي باتت تجذب الشباب العاطل عن العمل، ووضع ما هو ممكن من الدعم المادي واللوجستي رهن إشارة المقاولين الذاتيين الشباب، الراغبين في ممارسة هذا النوع من الأنشطة المدرة للدخل، والأبناك، بدورها لابد أن تنخرط في دعم ومواكبة وتأطير الشباب من حاملي المشاريع، من باب مسؤولياتها المواطنة، في تحريك العجلة السوسيو اقتصادية والنهوض بمستوى التنمية البشرية، أما السلطات الترابية، فلابد لها أن تتحرك في اتجاه إحاطة هذه الأنشطة الصاعدة، بإطار قانوني وتنظيمي، يقطع مع الفوضى والعشوائية، ويقي هؤلاء الشباب، من كل ممارسات التضييق والابتزاز والاستفزاز، حتى يمارسوا أنشطتهم في ظل سلطة القانون، مع التذكير أن الوضع الاجتماعي الصعب، يفرض دعم جميع حاملي المشاريع من المقاولين الذاتيين، وفتح الأحضان أمام كل المبادرات التي من شأنها خلق فرص شغل مدرة للدخل، من منطلق المسؤوليات الفردية والجماعية، في كسب رهانات الإقلاع التنموي الشامل.