الألباب المغربية/ حبيل رشيد
يقول العلامة الفقيه عبد الرزاق السنهوري في حكمةٍ تُنقَش بماء الذهب على مدخل محراب العدالة: “إن القانون بغير روحٍ تُنفَخُ فيه من ضمير القاضي، لهوَ جُثمانٌ مهيبٌ حُنِّطَ بالوقار، لا حياةَ فيه ولا نبض”. ومن صميم هذه الروح المنسيّة، من لُجّة الصمت التي تكتنف هيبة القضاء، ومن خلف ستار الوقار الذي ينسدل على وجوه حُرّاس الميزان، يأتيك كتاب “لو حكينا: بوح قاضٍ” للقاضي رشيد المنجري، لا كشهادةٍ عابرة، بل كـ”نَجِيٍّ” يهمس بأسرار ما وراء المنصّة، وكوثيقةٍ وُجدانيةٍ نادرة، كُتبت بمدادٍ يزاوج بين صرامة الحُكم ووجع الحِكاية. هذا السِّفْر ليس مجرد سردٍ لمواقف، بل هو عملية استنطاقٍ لذاكرة القضاء ذاتها، ومحاولةٌ فذّةٌ لفكّ طلاسم الصمت الذي يغلّف الإنسان خلف جبّته المُشَاة بالوقار… إنه دعوةٌ مغويةٌ لاكتشاف أن أثقل ما في ملفات القضايا ليس وزن الأوراق، بل وزن الأرواح التي تسكنها…
في هذا المُصنَّف الأروميّ، يتجلّى القاضي المنجري ككيميائيٍّ للكلمة، أو ناسجٍ للوجود من خيوط العدم. يأخذ رُكام الوقائع القضائية الصّلدة، ومساطر الإجراءات الجافة التي لا روح فيها، فيصهرها في بوتقة الأدب الرفيع، ليخرج منها تِبراً إنسانياً خالصاً، وسبائكَ من دهشةٍ خالصة. هو ذا الذي يحوّل محاضر الضبط القضائي الرتيبة إلى مشاهد مسرحيةٍ تضجّ بالحياة، ويجعل من المرافعات القانونية المتخشّبة حواراتٍ تكشف عن دياجي النفس البشرية وأغوارها السحيقة. إن القيمة الأثيلة لهذا العمل تكمن في مقدرته الفذّة على نزع الصفة الإجرائية عن الحكاية، وإعادة إلباسها ثوبها الإنساني الأول. فالقارئ هنا لا يطالع ملفاتٍ مرقونة، بل يغوص في حيواتٍ متلاطمة، يرى أخاديد الوجع محفورةً على وجوه المتقاضين، ويسمع صليل الخيبة في أصواتهم المتهدجة، وتُبهره القدرة على التقاط تلك اللحظة العابرة التي ينبثق فيها الهزل من صميم المأساة، كزهرة صبّارٍ تتفتّح في قلب صحراء قاحلة…
إن شخصية الكاتب، كما تشي بها سطوره، هي شخصية قاضٍ لم تجعله الألقاب الرسمية ولا هالة المنصب بمعزلٍ عن وهج الحياة وتفاصيلها الدقيقة. هو ذا القاضي الذي ما انفكَّ يرى بعينين اثنتين، لا بعينٍ واحدةٍ كأصنام العدالة الحجرية: عينٌ للناموس الصارم لا تحيد قيد أُنملة عن منطوق النص، وعينٌ أخرى للوجع الإنساني الذي يستتر خلف الأقنعة والأردية. عينٌ تشبه مِبضع الجرّاح في دقتها، تقيس الأفعال بميزان القانون… وعينٌ أخرى كبلسم الحكيم، تبصر الرجفة في يد الشاهد، والدمعة المتحجرة في مقلة المتهم، والصلابة المصطنعة التي يخفي خلفها المشتكي انهياره. بهذا البصر المزدوج، يقدم لنا المنجري عدالةً تتنفس، عدالةً لا تكتفي بتطبيق صخرة النص كآلة صمّاء، بل تسعى جاهدةً لفهم الجبلة البشرية في لحظات ضعفها وقوتها، في سقوطها ونهوضها… في تلك المنطقة الرمادية الضبابية التي تفصل بين الجاني والضحية، والتي لا ترتادها إلا بصيرةٌ نافذة وقلبٌ لم يمت…
وما يزيد هذا البوحَ ألقاً على ألق، هو تلك المُلْحة العابثة، وذاك الحس الساخر الذي يتخلل فصول الكتاب كرِيحٍ خفيفةٍ تداعب ستائر محراب العدالة الوقور. فالضحك هنا ليس تهريجاً أو استخفافاً، بل هو أرقى درجات الفهم، وأنفذ أشكال النقد. حين يروي لنا عن قضايا تبدو في ظاهرها هزلية، كنزاعٍ على صياح ديكٍ يوقظ حياً بأكمله من سباته… أو لصٍّ يترك قصيدة اعتذارٍ خلفه موقعةً باسم “سارق نبيل”… فإنه لا يسخر من شخوصه، بل يكشف ببراعةٍ فنانٍ عن عبثية الوجود الإنساني أحياناً، وعن المفارقات التي تجعل من محكمة الجنايات مسرحاً للكوميديا السوداء. إنها بسمة قاضٍ رأى من غرائب البشر ما يجعله يدرك أن الحياة أعقد من أن تُختزل في فصول قانونية، وأن الضحك قد يكون أحياناً رد الفعل الوحيد الممكن أمام تراجيديا الوجود… وهو ضحكٌ حكيمٌ، مريرٌ… وحقيقي…
تحت هذا السطح الأدبي البديع، والفكاهة الذكية، يرقد ناموسٌ غير مكتوب. فالكتاب برمّته مرافعةٌ ضمنيةٌ عن شرف المهنة، ونزاهة الضمير، وعن ذلك الصراع الأزلي الذي يعيشه القاضي بين سلطة المنصب وثقل الأمانة. لا نجد هنا مواعظ مباشرة أو خطباً رنّانة، بل نلمس القيم تتجسد في مواقف، في قرارٍ شجاعٍ اتُخذ في الخفاء، في رفض رشوةٍ بكلمةٍ حاسمة، في سهر ليالٍ طوال للتدقيق في ملف قد يراه الآخرون هيّناً… وهو في الحقيقة مصير إنسان. إن “لو حكينا” يذَرُ في نفس قارئه تقديراً عميقاً لذلك الجهد الخفي، وتلك التضحيات الصامتة التي يبذلها قضاةٌ نزهاء، هم حُرّاس العدل الحقيقيون، لا بنصوص المراسيم، بل بنقاء سرائرهم التي لم تدنّسها مغريات السلطة…
وبين الحكاية والأخرى، يترك لنا القاضي مساحاتٍ للتأمل، يوشّيها بنقط حذوفٍ كأنها نوافذ مفتوحة على الصمت… نتأمل معه الزمن الذي يتمدد ويتقلص بين جدران المحكمة، وبطء عقارب الساعة في قاعات الانتظار، وسرعة اللحظة التي يُنطق فيها بالحكم كأنه ضربةُ صيْلمٍ حاسم… نتأمل ذلك الوجع الإنساني الأخرس، الذي يتسلل من تحت الأبواب الموصدة، ويعلَقُ في هواء المكاتب الفخمة، رائحته تملأ المكان… رائحة الخوف والرجاء والندم… فكل ملفٍ مكدّسٍ على رفٍّ ليس مجرد ورق، بل هو مقبرةٌ لأحلام، وشاهدٌ على انكسارات، وصرخةٌ مكتومة تنتظر من يسمعها… وهذه الوقفات التأملية هي التي تمنح الكتاب روحه، وتجعله يرتقي من مجرد مذكراتٍ إلى مصاف الأدب الخالد الذي يلامس الأوابد الإنسانية الكبرى، ويجعلك تشعر أنك لست مجرد قارئ، بل شريكٌ في جلسة تأملٍ صامتة مع ضمير القضاء…
في الختام، إن “لو حكينا: بوح قاضٍ” ليس كتاباً يُقرأ، بل هو حالةٌ تُعاش، وتجربةٌ تُستبطَن. إنه شهادةٌ نادرة على أن القضاء، في أنبل تجلياته، ليس مجرد مهنة، بل هو رسالةٌ روحية. لقد نجح القاضي رشيد المنجري في أن يكتب مرافعةً أدبيةً فريدة، لا ليدافع عن قضية، بل ليدافع عن إنسانية القضاء، وعن ذلك الإنسان الذي يرتدي الجبّة ويحمل على عاتقه أمانة الفصل بين الناس. وحين نُغلق دفتي الكتاب، لا يبقى في الذهن صخب المرافعات، بل يتردد في الروح ذلك السؤال السرمدي الهامس: أين هو ذاك التَّخْمُ الرهيف، ذاك الخيط الشفيف الذي يفصل بين عدالة القانون… وعدالة السماء…؟ الكتاب لا يجيب، بل يقف هناك، على ذاك الحد الفاصل بالذات… في شموخٍ أدبيٍّ صامت… ويتركنا نتأمل في تلك المسافة الرفيعة كحد السيف… ونفهم.