الألباب المغربية/ محمد خلاف
بعبق ذاكرة وفيض عطاء وطهر؛ مفعم ببرد الطمأنينة؛ وفي وصف ماتع ورقيق؛ اعتبر الشاعر الراحل عبد الله راجع ذات يوم بلدة الفقيه بن صالح هي القرض الفلاحي والجدارمية؛ حيث كانت الحياة تتمركز بين هاتين البنايتين؛ مرورا بالبوسطة وبيرو عراب ولوفيس؛ لكن سرعان ما تاهت المدينة وتستر القرض الفلاحي ومركز الدرك بين شارع وشوارع وبنايات سامقة؛ وزحف اسمنتي رهيب اغتال المجال الفلاحي بلا هوادة؛ جراء هجرة مكثفة إلى أوروبا؛ استبدلت بها المدينة ثوبها القروي إلى حين؛ وبعائدات مالية أثرت على نسيج المدينة عمرانيا؛ اقتصاديا واجتماعيا؛ بمد جارف ومتسارع؛ يهزأ بالصخب؛ أحدث شروخا اجتماعية عدة؛ اربكت النسيج العلائقي في العديد من التجليات؛ كما تمظهرت في اغتراب وفقدان هوية؛ وإفراز طبقات من المهاجرين بعيون متعبة؛ منهم من استفاد من الهجرة واستثمر في مشاريع مدرة للربح داخل المدينة أو خارجها؛ ومنهم من اختار العودة طواعية بعد ادخاره بعض المبالغ المالية من أجل استثمارها؛ ومنهم من طرد لسبب أو لآخر؛ لتبرز ظاهرة “الروفولي” كمأساة اجتماعية جديدة بالمدينة؛ ومعها جيل لا زال يعاني من الخيبات والإحباطات؛ بعدما كانوا يضخون الملايين من العملة الصعبة؛ جعلت بنوكا تفتح متسارعة مقرات جديدة لها بالبلدة؛ أموال لم يحسن استثمارها؛ تراوحت بين بنايات مهجورة بالمدينة أو الدوار؛ أو سيارات فارهة؛ ومشاريع اصطدمت بواقع مرير؛ أصبحوا يجوبون الشوارع ويقضون النهار في المقاهي؛ فتحول الثراء إلى بؤس وألم وضياع؛ ودوامة من الحلم والاستيهام؛ فكثرث الجريمة والأزمات الإجتماعية؛ ومنهم من تشتتت أسرته؛ وعانى أوضاعا نفسية صعبة؛ بعد عجز وانسداد آفاق؛ في مدينة سفلى هامشية تراوحت بيت الثابت والمتحرك دوما؛ وأحمد من أبناء ضواحي المدينة الذين غامروا على متن قوارب الموت في رحلة الكوابيس من نواحي طنجة؛ استطاع بعد مدة ليست باليسيرة الحصول على أوراق الإقامة بإيطاليا وأن يجلب أموالا طائلة جراء تجارة مشبوهة؛ ويستثمر بالمدينة؛ غير أنه ذات مرة أثناء عودته من إيطاليا اتفق مع صديقه الإيطالي (ريكاردو) على جلب سيارة الأودي الفارهة للمغرب؛ وبيعها هنا بالمغرب بعد تزوير وثائقها؛ فحين سيدعي الإيطالي سرقتها هناك؛ لتعويضه من قبل التأمين بميلانو؛ سارت الأمور على النحو الذي خطط له؛ فبيعت السيارة؛ بخريبكة لرجل أعمال؛ وتم تعشيرها؛ وعاد أحمد لاقتسام ثمنها مع الإيطالي؛ الذي استفاد من قيمتها كلية من طرف شركة التأمين في تلاعب مربح جدا؛ باعتبار أنه بإيطاليا كلما استنبط قانون جديد استنبطت طريقة للتخلص منه من قبل مافيات الظلام؛ غير أن سفر الذي اشتراها بحسن نية بالمغرب على متنها إلى أوروبا؛ جعلت عناصر الشرطة الإسبانية بتنسيق مع الانتربول تحجزها؛ لكونها كانت موضوع بحث دولي؛ فبدأ التحقيق ليتابع أحمد بتهمة السرقة والتهريب الدولي للسيارات؛ بعدها تبرأ منه الإيطالي الخبيث في نظر أحمد؛ لأنه أحرق أصابعه بإطفاء شمعته؛ ولأن إبليس كالفحمة إذا لم يحرق سود؛ فألقى عليه جهاز الكارابينيري القبض؛ واحتجز بسجن مدينة الساندريا ؛ ليتم ترحيله إلى المغرب جوا؛ ليصطدم بواقع آخر؛ في ضحك منه كالبكاء على حاله وأحواله؛ عانى من سوء المعاملة سواء من قبل الإدارات العمومية؛ ومن قبل العاملين في مشروعه؛ فأغلق محله وبارت تجارته وأصيبت بالكساد؛ فاضطر لبداية عملية بيع الممتلكات؛ لتتحول ثروته إلى سراب في لمح بصر؛ وبدأ نجمه بالأفول؛ وهو المعتاد على حياة الترف والأناقة؛ توالت السنوات؛ ليجد نفسه في مسكن بسيط بحي شعبي؛ يسير راجلا؛ أو على العربات المجرورة؛ بعد سنوات العمارات والمشاريع والأموال؛ والأناقة والميرسيديس والأمارو؛ والموراتي؛ والدولشي غابانا و… أصبح أحمد يقضي يومه في مقاهي القمار المتواضعة بالمدينة أضحوكة لا يجد من يتصدق عليه بسيجارة رخيصة يحرق بها ما بقي من فسحة للتنفس لديه؛ يفكر بالعودة إلى الفردوس المفقود؛ غير أنه يصطدم بقلة ذات اليد وسوابقه القضائية؛ وتدهورت صحته؛ لأنه بين قول وفعل يتوسط البحر؛ فيعيش على أنقاض ذكريات بميلانو؛ وبريشيا؛ وبرغامو؛ بين ماضيه وحاضره؛ بين فقدان هوية؛ واغتراب شبيه بحالة الهيام والجنون أحيانا؛ لاعنا نواته البدوية وسوء استغلاله للأموال الطائلة التي أضاع بطريقة غير معقلنة؛ وفي صراع أبدي مع نظرات الآخرين؛ ومن يصفونه بالفاشل؛ بعد عودته إلى نقطة الصفر؛ ولسان حاله يقول تمنيت أن تتحطم الطائرة وأن أموت غرقا على أن أعود إلى هنا؛ وتنتهي الأحلام بكابوس مرعب؛ وفقدان الرغبة في الحياة؛ ليدندن أحمد أو حميدة كما أصبح يلقب مرارا بجملة إيطالية يحفظها (chi cerca trova)؛ غير أن والداه وزوجته وصديقه يحاولون دوما التخفيف عنه؛ ويذكر أن السعادة ليست دوما مرادفة للغنى وأن المال وسيلة للحياة؛ وليس هدفا لها؛ لأن الاستمتاع بالأشياء البسيطة يجلب السعادة دوما؛ ولا فرق بين الغني والفقير مادامت القلوب عامرة بالقناعة والرضى. أحمد يظن أن آلامه وجروح قلبه لم يعشها أحد قبله في العالم وتاريخه، ولكن وبمجرد أن يفتح جريدة ويقرأها، أو يجالس “الروفولي” آخر يتعلم أن ما يمر به يشاركه فيه الكثير من البشر من حوله، ومنهم من سبقوه لهذه التجربة. واستمر أحمد في زيارة الدوار ودار الدوار وأبناء الدوار؛ حنينا لحياة البساطة والطفولة والصفاء؛ بعد أن هجروها؛ ولم يقفلوا أبوابها بالمفاتيح؛ ربما في نوسطالجيا العودة إلى الماء؛ وتفقد البلبل والكلب وشجرة التين؛ الذي تعود أحمد على رؤيتهم. بعدما مرت سنين اشتاق فيها إلى نفسه؛ وهمومه الصغيرة وأمنياته الكبيرة؛ كي يرسم أزهارا جديدة؛ وإن افتقدت إلى عبق ورائحة؛ فالدنيا كلها حلم كاذب: الحب، والمال، والصحة والسعادة والمجد، لا يخلد شيء من ذلك ويبقى. فسقط أحمد من الزمن وفي الزمن…