الألباب المغربية/ محمد خلاف
قراءة غائرة لمحكيات المحجوب عرفاوي (هناك.. ترجني أوتار المكان) تحقق لا محالة درجة عليا من لذة النص؛ تلك اللذة الصامتة التي تحدّث عنها رولان بارت، والتي تنتج من تسلسل اللغة، وأضيفت إليها حرارة السرد والحكايات وصخب المعنى والدوال، وعجائبية الأحداث…..
شهوة الأمكنة استنطاق أماكن منتقاة لدى الكاتب، أماكن تعد جزء من وجوده. أماكن نحس بلذتها نحن أبناء البادية، بل أكثر من ذلك، يشعر قارئ المحكيات بالتماهي مع تلك الأماكن، فينغمس في القراءة، فيتملكه الإحساس بأنه يجول في تلك الأمكنة المعروضة، ليستحضر فضاء عاشه وتعايش معه خلال فترة زمنية ما. فالأمكنة الموظفة في المحكيات جاءت متنوعة وموزعة الدلالة، فمرة مفتوحة وأخرى مغلقة، ومرة واقعية متخيلة، وأحيانا أخرى حضرية أو قروية.
إنه الإبداع في أرقى حلته، طبق شهي لأماكن محفوظة في الذاكرة نفض عنها الكاتب غبار الماضي بتعاقب أحداثها وتاريخها ومكانها.. وقد قدمها لنا كطبق غني لا يمكننا مقاومة جماله وعمق دلالاته، فلم تعد الأمكنة تحمل المعنى المجرد أو المحايد، بل أصبحت منخرطة في عالم الحكي، تمنحه كثيرا من الزخم الدلالي، وهذا ما لمسناه في تأثيث الفضاء الروائي للمحكيات… فهي على حد تعبير الكاتب ليست مجرد فضاء أو أفضية قضى فيها مرحلة من عمره، بل هي أكثر من ذلك إنها كائنات هلامية تتسلل إلى ذواتنا خلسة حينما يقودنا القدر لنتجول في دروبها ونتلمس جدرانها ونعقد معها اتفاقات ضمنية تعتمد على المعايشة أكثر من أي شيء آخر أو عندما نستنشق هواءها ونثير النقع من أديمها وغبارها … أماكن المحكيات تستحق وقفة نقدية عميقة مغايرة وفاحصة لطبقات المعاني والدوال وعلاقاتها المتشابكة بما تتضمنه من إشكالات الهوية والكينونة، وإشكالات الاغتراب الوجودي وانتماءات المصائر المجهولة وصدام الثقافات وصراعاتها والاندماج الطوعي الوجودي في المكان، كما انبنت عليها بنيتها السردية المركزية كلها.
والمحكيات رغم انتمائها لما يمكن تسميته جدلا بالأدب المحلي المُغرَق في نوستالجيته، وجدتُ في جذرها الفني والفكري، بمثابة وثيقة تاريخية ونفسية وسوسيولوجية ورصداً حيوياً وايديلوجياً، كان إمّا بالمعايشة أو المشاهدة بقرب لواقع القرية والقرويين، كواقعٍ مسكون دوماً بالقلق الوجودي والمشاعر المتناقضة المترجحة بين الحنين، والضياع، وبين الرفض للواقع ومآلاته ومصائره، وفي انتفاء القدرة على الاندماج والتماهي مع ثقافته ومواضعاته الاجتماعية.
فالفن السردي في هذه المحكيات جاء متوهجاً بالصدق الفني ونابضاً بروح متوهجة وتفكير روائي مغاير كون المحجوب عرفاوي عرف عن قرب وعايش وسمع أو شاهد عن بعد كل شخوصه…
في محكيات (هناك.. ترجني أوتار المكان) يسافر بنا الكاتب من العالم الواقعي، المعيش المتجسد في بني عمير، المكان المعزول عن كل مظاهر الحضارة، والمنتمي تنمويا إلى المغرب غير النافع حسب التقطيع الاستعماري إلى عالم مُتخيّل، المكان في المحكيات هو البيئة الموصوفة التي تؤثر على الشخصية وتحفزها على القيام بالأحداث وتدفعها إلى الفعل حتى أنه يمكن القول بأن وصف البيئة هو وصف مستقبل الشخصية… وأهم الأماكن في المحكيات نجد البادية: رغم كونها المكان الذي يتسم بالانفتاح إلا أنه ترك جروحا في نفسية الكاتب على اعتبار أنه مكان يقع على الهامش وبعيدا عن كل المقاربات التنموية، واقع التهميش هذا سيخلف تمردا لدى شخصيات المحكيات وستنشد حياة العبث، وستضرب عرض الحائط كل القيم المتعارف عليها داخل الدوار، ثم نجد المدينة هو المكان الثاني المنفتح الذي ستجرى فيه بعض الأحداث…. وسيعمد الكاتب مهارة سردية عن طريق التخييل لأن ينتقل بالقارئ إلى عالم يتسم بالانفتاح والحرية واختلاط الأجناس، مما يساهم في بناء مكان منسجم مع طبائع وعادات الشخصيات التي تتحرك فيه وتتأثر به بدون أية مفارقة، حيث يكون هناك تأثير متبادل بين الشخصية والمكان ومن هنا يصبح بإمكان بنية الفضاء الروائي أن تكشف لنا عن الحالة الشعورية التي تعيشها الشخصية، بل وقد تساهم في التحولات الداخلية التي تطرأ عليها…
وفي سياق التنويعات اللغوية اعتمد الكاتب على لغة التفاعل النصي، مستدعيا أنماطا تعبيرية تخللت النص الروائي كالأغنية الشعبية لما لها من دلالة نفسية تعبيرية على المتلقي، متجاوزة البعد المرجعي وفاتحة آفاقا للإيحاء والرمز…
وانطلاقا من مبدأ التنويعات اللغوية يتكئ الكاتب ضمنيا أو تصريحا جملة من الأمثال سواء بلغة فصيحة أو بالدارجة المغربية باعتبارها مرجعا للوعي الجمعي تختزل تجارب السابقين، وتحاول الاستفادة من خبراتهم….
كما نلاحظ أن الكاتب استطاع أن يجعل من المكان عنصر بانيا للمحكيات بتأثيره في الأحداث وفي نفسية الشخوص، معتمدا على اللغة لقدرتها الخلاقة في الكشف عن جملة من القضايا الاجتماعية التي ينضح بها المجتمع، وفضح طبيعة التناقضات المجتمعية. وهو ما سمح له بأن يوظف جملة من الأشكال الخطابية ولغة التفاعل النصي وتطويعها خدمة للنص الفني، وإخراجه للقارئ على درجة من التناغم والانسجام سواء من حيث تيماته الجريئة المحطمة للطابو أو الخروج عن طرائق الكتابة التقليدية. حيث نلاحظ أن المكانَ لا يعيش منعزلًا عن باقي عناصر المحكيات، وإنما يدخل في علاقاتٍ متعددة مع المكونات الحكائية الأخرى للسرد، كالشخصيات والأحداث والرؤيات السردية… فالمكان شبكة من العلاقات المتشابكة والقوى الفاعلة، ونتاجٌ للثقافة التي تعني إنتاج الإنسان للقيم المادية والروحية والرمزية.
وكون هذا العمل الأدبي في متنه ونسيجه اللغوي والجمالي يخلق واقعاً فنياً مركباً ومتمازجاً في مساراته، ومنعرجاته، وأحداثه ومآلات شخصياته المصيرية، فإنه يعدّ تمثيلاً جمالياً حقيقياً للمكان في بعديه الداخلي والخارجي. بل إن هذا الواقع السردي الفني كان له أيضاً منطقه الجمالي المتعدد والتأويلي المنفرد.
فنجد المحجوب عرفاوي يمزج الواقعي بالمتخيّل الغارق في واقعيته الحارة، بحيث يضفي الغرائبي والاستثنائي ظلالاً وغموضاً شفافاً أكثر على المكان، مكان يتموج بين الحقيقي والتخييلي، حيث نجح في تحقيق “لذة النص” في نسيجها الجمالي ولغتها، ولذة القراءة…
فالمكان في المحكيات هو العمود الأساس وهو الدعامة التي ترتكز عليها باقي عناصر السرد الأدبي كالزمن والحدث والشخوص سواء أكانوا أساسيين أم ثانويين.
إن المكان في المحكيات إما أن يكون نتيجة تجربة حقيقية يعيشها الكاتب أو يعيشها من هم حوله بواقع حقيقي بكل تفاصيله، أو أن يكون من وحي خياله فحينها يمتلك كامل الحرية في التحرر من الواقع متجهاً نحو أفق التشويق والإبداع للقارئ ولكن شريطة ألا يشوه ملامح المكان الحقيقي.
فقد اختار المحجوب عرفاوي أمكنته بوعي عميق، وهذا يسهم في إنتاج نص مغاير بعناصر متماسكة مرتبطة متفاعلة مع المكان،الذي يعتبر مسرحاً للأحداث والحيز الذي يتحرك ويعيش فيه شخوص المحكيات فتنشأ العلاقة المتبادلة بين المكان والشخوص فتُمنح هذا المنتج الأدبي خصوصيته، وأن كل نص سردي ناجح له دلالاته المكانية… فلأماكن في المحكيات ليست دوار، وسوق، ومدينة تحمل عبق الماضي، بل هي تاريخ، مملوء بالأحداث، وبالقضايا الإنسانية الكثيرة، حيث خلد الكاتب أمكنته القابعة في دهاليز النسيان، فنفض عنها الغبار، وأظهر جمالياتها، وعراقتها، ولعل المحكيات من أبرز الأعمال التي منحت دور البطولة للمكان، على غرار السرد العربي القديم الذي كان سباقا للاحتفاء بالمكان، فقد روض الكاتب المكان وجعله كائنا حيا، هذه العملية بالمجمل ربما تحول صيغة التفاعل من “قراءة” إلى صيغة “مشاهدة”.
ومن المؤكد أن لدى المكان سطوة على الكاتب ولا يمكنه إغفال تأثيره ويساهم بقدر كبير في تشكيل وبناء اللغة، ومن المكان تولد الشخصيات وتُبنى العلاقات فيما بينها وتتحدد مصائرها، وربما يتقاطع الزمان والمكان معا فيكون الزمان أي أنهما يمتزجان معا.
في بعض الأحيان يكون المكان بطلاً يحتوي على حيز كبير تأتي بعده بقية العناصر وربما تقوم على بنيانه أو أنها تستمد وجودها منه، وظل المكان هو العنصر الوحيد الذي لم يتزعزع كبقية العناصر كالزمن والشخصيات التي تلاشت فيما بعد لكنه ظل كما هو محور كل الكتابات حتى نهايتها. كما يعتبر المكان هو أول ما بنيت عليه المحكيات، وقد نجح المحجوب عرفاوي في الاستعانة بأمكنة يعرفها تماما ويعرف مفرداتها ويستطيع العزف على أوتارها، كي تصبح محكياته مهمة يبحث عنها القارئ.