الألباب المغربية
تتجه الأنظار عالمياً إلى مدينة لاهاي في هولندا، حيث محكمة العدل الدولية، التي تبدأ الخميس، التحقيق في قضية “الإبادة الجماعية” بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا ضدها في واقعة هي الأولى من نوعها.
وتقدم جنوب افريقيا مرافعة من 84 صفحة باللغة الإنجليزية، تعرض خلالها دلائل على انتهاك إسرائيل القوة القائمة بالاحتلال لالتزاماتها بموجب ميثاق الأمم المتحدة، وتورطها بـ”ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة“.
وكانت إسرائيل وافقت على المثول أمام المحكمة بذريعة أنها تريد “دحض” ما وصفتها بالاتهامات “السخيفة التي تفتقر إلى أي أساس واقعي أو قانوني“.
وبذلك تكون تل أبيب قد قبلت أن ترتدي “البدلة البيضاء”، وفق تعبيرات بعض الفلسطينيين والنشطاء العرب، فهذه البدلة مخصصة عادة في محاكم بعض الدول مثل مصر، للمتهمين قبل إدانتهم أو للمحبوسين احتياطا على ذمة قضية.
ورغم أن إسرائيل تصف الاتهامات الموجهة إليها بأنها “تفتقر لأي أساس قانوني”، إلا أن هيئة البث الإسرائيلية الرسمية قالت، الجمعة الماضي، إن تل أبيب متخوفة من أن تصدر محكمة العدل الدولية، “قرارا بوقف الأعمال القتالية في قطاع غزة“.
كما أكدت وسائل إعلام إسرائيلية أخرى على وجود خشية جدية في المؤسستين الأمنية والنيابة العامة الإسرائيليتين من أن توجه المحكمة الأممية اتهامات لتل أبيب بـ”الإبادة الجماعية“.
وفي هذا الشأن تقول صحيفة “الغارديان” البريطانية، إن طلب جنوب أفريقيا لإصدار حكم مؤقت بالدعوى يتماشى مع الاتجاه الأوسع في محكمة العدل الدولية لمثل هذه الأحكام، إذ أن هناك مساع متزايدة في العقد الماضي للحصول على تدابير مؤقتة وقد أصدرت المحكمة تدابير مؤقتة في 11 قضية، مقارنة بـ10 قضايا في الخمسين سنة الأولى من وجود المحكمة (1945-1995).
وتقول وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية، إن الأوامر المؤقتة ستكون سارية أثناء نظر القضية برمتها، وفي حين إنها ملزمة قانونا ولكن لا يعني ذلك التزام الأطراف بها.
** ماذا سيحدث؟
ومن المقرر أن تبدأ محكمة العدل الدولية الاستماع إلى مواقف الطرفين علي مدار يومين (10 و12 يناير/ كانون الثاني الجاري)، بشأن الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا في 29 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بعد أكثر من شهر على تعليق علاقتها مع تل أبيب في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، احتجاجاً على هجماتها المدمرة في غزة.
ومن المتوقع أن تقرر المحكمة وهي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة لاحقا، كيفية سير مداولاتها في هذه القضية.
وفقا للمادة 31 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، عندما يتم النظر في قضية، يمكن للدولة الطرف تعيين قاض مؤقت، يسمى “قاضيا خاصا”، بشرط أن يعمل فقط من أجل تلك القضية.
وفي هذه القضية، من المنتظر أن يعمل نائب الرئيس السابق للمحكمة الدستورية في جنوب إفريقيا، البروفيسور ديكجانج موسينيكي، والرئيس السابق للمحكمة العليا الإسرائيلية، أهارون باراك، كقاضيين خاصين نيابة عن بلديهما.
وما سيحدث اليوم هو خطوة في مسار طويل، حيث ستنظر هيئة المحكمة المكونة من 15 قاضيا في اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة وتحديد مواعيد بدء المحاكمة وكذلك مواعيد البت في التدابير المؤقتة (الطارئة) التي طلبتها جنوب إفريقيا من أجل حماية الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك وقف العمليات العسكرية والسماح بعودة النازحين قسريا وإدخال المساعدات الإنسانية فورا.
ووفقا للإجراءات الاحترازية، ينبغي على المحكمة أن تنظر أولا فيما إذا كان لديها الاختصاص القضائي للنظر في الدعوى، وما إذا كانت الأفعال التي تتهم بها إسرائيل تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية.
وسيكون لجنوب إفريقيا وإسرائيل ساعتان خلال اليوم الخميس وبعد غد السبت، لتقديم الحجج القانونية لصالح أو ضد اتخاذ التدابير المؤقتة أو الطارئة بحضور فريق المحامين الدوليين. وغالبا ما يصدر القضاء إشارة إلى هذه التدابير بمطالبة دولة (إسرائيل في هذه الحالة) بالامتناع عن أي إجراء قد يفاقم النزاع.
ولن تصدر المحكمة حكما نهائيا بشأن اتهامات الإبادة الجماعية إلى حين تعيين وعقد جلسة للبحث في القضية بشكل كامل، وهو ما قد يستغرق سنوات وفق خبراء في القانون الدولي.
ورغم أن أحكام محكمة العدل الدولية نهائية وغير قابلة للطعن، لا توجد أي وسيلة لتنفيذها أو الإلزام باحترامها، لكن من شأن صدور حكم ضد إسرائيل أن يشكل سابقة قانونية وأن يعمق عزلة إسرائيل ويضر بسمعتها دوليا.
** من يمثل الجانبين؟
أعلنت وزارة العدل بجنوب إفريقيا، في بيان لها الثلاثاء، أن الوزير رونالد لامولا سيترأس وفد بلاده في محكمة العدل الدولية خلال جلسة الاستماع في قضية “الإبادة الجماعية“.
وأوضح لامولا أن بلاده عازمة على إنهاء “الإبادة الجماعية في غزة عبر هذه الدعوى“.
وأضاف أن بلاده “تستمد القوة من قادة العالم الذين يقفون على الجانب الصحيح من التاريخ“.
وبحسب تقارير إعلامية، فإن الجانب الجنوب الإفريقي سيمثله في القضية محامون بقيادة أستاذ القانون الدولي الجنوب أفريقي جون دوغارد، والجانب الإسرائيلي سيمثله المحامي البريطاني مالكولم شو.
ودوغارد، مقرر سابق لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وعمل سابقًا قاضيًا في محكمة العدل الدولية عدة مرات.
دوغارد قال للأناضول في ديسمبر الماضي، إنه “من المهم التأكيد على أن الإدارة الإسرائيلية ورئيس الوزراء (بنيامين) نتنياهو وحكومة الحرب والعديد من أفراد الجيش الإسرائيلي مسؤولون عن ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية وربما إبادة جماعية، إنهم مسؤولون عن هذه الجرائم“.
وعلى الجانب الإسرائيلي، أفادت صحيفة هآرتس، بأن المحامي البريطاني مالكولم شو من “الشخصيات الرائدة” في العالم في مجال القانون الدولي.
وقد عمل شو أيضًا في محكمة العدل الدولية في الماضي.
وطوال حياته المهنية، قدم شو استشاراته في النزاعات الإقليمية، والقانون البحري، وحقوق الإنسان، والمنظمات الدولية، وفقًا لملفه الشخصي في شركة المحاماة التي يعمل فيها ومقرها المملكة المتحدة.
** ما الاتهامات المقدمة؟
تتهم جنوب إفريقيا، إسرائيل بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة لمنع ومعاقبة الإبادة الجماعية لعام 1948 بثلاثة أشكال.
وذكرت جنوب إفريقيا أولا أن “إسرائيل، في عملياتها في غزة، تصرفت بقصد الإبادة الجماعية لقتل سكان غزة الذين ينتمون إلى شعب وعرق ودين واحد، وتسببت في أذى جسدي أو عقلي خطير لهم، وأنها دمرت عمدا الظروف المعيشية لسكان غزة“.
وثانيا، جاء في الطلب المكون من 84 صفحة أن “إسرائيل فشلت في منع الإبادة الجماعية“.
وأخيرا، تشير جنوب إفريقيا أن “إسرائيل لا تعاقب المسؤولين الذين يحرضون على الإبادة الجماعية“.
وفي أحاديث سابقة للأناضول، وصف خبراء قانونيون الأدلة التي قدمتها جمهورية جنوب إفريقيا بقضية “الإبادة الجماعية” بأنها “قوية“.
ومن بين الخبراء الدكتور بجامعة نوتنجهام ترنت في المملكة المتحدة لويجي دانييلي، الذي يقول للأناضول إن “مجموعة محترفة من المحامين سوف يمثلون جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية“.
ويضيف دانييلي أن “الطلب الذي تقدمت به جنوب إفريقيا قويٌ للغاية، لقد أعد المحامون عريضة قوية جدًا، وهذه ليست مفاجأة، لأن جون دوجارد وغيره من المحامين الذين سوف يمثلون جنوب إفريقيا، خبراء وناجحون للغاية بهذا المجال“.
ويوضح أن جنوب إفريقيا “استخدمت بنجاح في طلبها المرفوع، خطاب السلطات الإسرائيلية الذي يكشف عن نيتها بارتكاب الإبادة الجماعية ضد سكان غزة“.
ويؤكد أنه “لا يمكن تفسير تصريحات المسؤولين الإسرائيليين هذه إلا بأنها إبادة جماعية، وذلك كما ذكرت جنوب إفريقيا في الطلب المرفوع“.
** سابقة تاريخية
وهذه المرة الأولى التي تقبل إسرائيل فيها المثول أمام محمة العدل الدولية بعد أن رفضت عام 2004 حضور إجراءات التقاضي بشأن إجراءات جدار الفصل في الضفة الغربية، ثم تجاهلت الحكم النهائي متذرعة بعدم اعترافها بسلطة المحكمة.
ويأتي ذلك رغم أن الفلسطينيين يؤكدون عادة أن “إسرائيل ارتكبت العديد من الجرائم الوحشية على مدار تاريخها بهدف ترويعهم وتجيرهم من أرضهم“.
وتشير أبحاث لمراكز حقوقية فلسطينية إلى وقوع أكثر من 100 مجزرة كبرى منذ عام 1947 “تتوفر فيها جميعا مقومات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي”، لكن لم يتم محاكمة إسرائيل بشأنها.
وفيما يتعلق بالحرب في غزة الحالية، فإن معظم المنظمات الحقوقية وذات الطابع الإنساني والإغاثي مثل منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومن رايتس ووتش وأطباء بلا حدود ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ومنظمة الصحة العالمية، والصليب الأحمر الدولي أكدوا على الطابع الإجرامي للأعمال العسكرية الإسرائيلية ضد السكان المدنيين، وحتى ضد موظفي الهيئات الدولية.
وتجري تلك “الجرائم” في غزة عبر أدلة واضحة وموثقة بالصوت والصورة تؤكد أنها “تسبب عمدا معاناة كبيرة أو ضررا جسيما للسلامة الجسدية أو الصحة البدنية أو العقلية للسكان المدنيين بالقطاع“.
وفي هذا السياق، قال رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، في تصريحات له بـ 8 يناير/ كانون الثاني الجاري، إن “إسرائيل ستقف أمام محكمة العدل الدولية، متهمة بارتكاب مجازر بهدف الإبادة الجماعية بحق شعبنا“.
وأضاف اشتية، أن “إسرائيل لن تستطيع أن تستمر في خداعها العالم في لوم الضحية، فالعالم اليوم يعيش في عصر السوشال ميديا، يرى ويسمع ويعرف أنها دولة مجرمة ووجب تحميلها المسؤولية“.
وأشار إلى أن محكمة العدل الدولية لن تعالج ملفات من الماضي، بل الجرائم التي تحدث اليوم أمام نظر كل العالم وسمعه، بما في ذلك قضاة المحكمة الـ15، معربا عن أمله أن يقفوا مع الحقيقة والحق وليس مع الضغوط السياسية.
وتمنى اشتية للفريق القانوني التوفيق وأن تقضي المحكمة بوقف الحرب فورا، وتستمر إجراءات محاكمة إسرائيل في جميع المحاكم الدولية.
** دعم عربي
أكدت جامعة الدول العربية دعمها وتأييدها بشكل كامل الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، معربة عن تطلعها إلى “حكم عادل يوقف الحرب العدوانية على قطاع غزة ويضع حدا لنزيف الدم الفلسطيني“.
وقال الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، في تصريحات صحفية سابقة، إن “الأمانة العامة للجامعة تدعم المسعى الجنوب إفريقي بكل السبل الممكنة من خلال الاستعداد لتقديم ما يخدم القضية ويعزز الموقف الفلسطيني“.
وأضاف أبو الغيط، أنها “خطوة مهمة ليس فقط نحو وقف إطلاق النار ولكن أيضا مساءلة الاحتلال الإسرائيلي“.
** موقف واشنطن
ولكن الولايات المتحدة الأمريكية حملت موقفاً مسانداً لإسرائيل كما جرت العادة، فقال وزير خارجيتها أنتوني بلينكن الثلاثاء الماضي، في ختام مباحثات أجراها مع مسؤولين في إسرائيل، إن رفع جنوب إفريقيا قضية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية “يشتت جهود احتواء التصعيد” في قطاع غزة.
وأشار إلى أن الولايات المتحدة تعتقد أن “دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بلا أساس“.
وردت حركة “حماس”، الأربعاء، على موقف بلينكن، بالقول، إن المواقف الأمريكية من الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا بمثابة “استخفاف” بالقانون الدولي.
وقالت في بيان، إن الموقف الأمريكي “محاولة لتعطيل أدوات العدالة الدولية عن القيام بدورها، في إطار دعمها الكامل للمجازر التي يرتكبها الاحتلال ضد المدنيين في القطاع“.
ودعت “حماس”، “الإدارة الأمريكية مجددا إلى التوقف عن سياساتها التي تطيل أمد العدوان، والإبادة المرتكبة في قطاع غزة“.
ومنذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 يشن الجيش الإسرائيلي حربا مدمرة على غزة خلّفت حتى الأربعاء 23 ألفا و357 شهيدا و59 ألفا و410 مصابين معظمهم أطفال ونساء، و”دمارا هائلا في البنية التحتية وكارثة إنسانية غير مسبوقة”، وفقا لسلطات القطاع والأمم المتحدة.
وكالات